Dabas Management
1155 Camino Del Mar
Suite 411
Del Mar, CA 92014
ph: 8583536567
fax: 8587949545
alt: 8587949545
ahmadada
عم عبدو [1]
عنان شيخ الأرض [2]
( 1 )
يحكى أنه في ماضي الأيام، كانت هناك مدينة قابعة على شاطئ البحر، تؤمها السفن حاملة إليها ومنها بضائع شتى.. وكان قصر الإمارة يطل على البحر والمرفأ.. وكان للمدينة أمير يحكمها بمؤازرة وزير عدل رشيد، يعينه في تصريف أمورها.. وشاءت الأقدار أن يتوفى هذا الوزير، وسعى الأمير لاختيار بديل عنه يحمل ذات صفاته، وهداه الله إلى رجل توسم فيه تلك الصفات، واستيقن من حسن اختياره بعد أن بدءا العمل معا..
( 2 )
كان أميرنا هذا قد نشأ على يد رجل اسمه عم عبدو، رعاه من طفولته إلى صباه إلى شبابه، وشاركه في حِلّه وترحاله، وأحسن معاملته، وقدم له النصح والإرشاد.. وكان الأمير يكن للعم عبدو المحبة والاحترام، ومن ثقته به أولاه رعاية أولاده.. فجاءه عم عبده معاتباً على عدم اختياره وزيراً له.. وهو الذي رعاه صغيراً.. ورأى في عدم اختياره عدم وفاء ونكران للجميل.. لم يجب الأمير، ولم يحاول أن يبرر قراره.. وتظاهر بأسفه لأنه نسي العم عبدو عند الاختيار.. على أنه أراد أن يعرفه سبب عدم اختياره بشكل عملي..
صادف في أحد الأيام أن كان الوزير مسافراً، وأن أمّتْ المرفأ سفينة، فقال الأمير لعم عبدو: اذهب، وتقصىّ لي خبر هذه السفينة.. سرّ العم عبدو من هذا التكليف.. فذهب وعاد مسرعاً وقال: هي سفينة من جنسية كذا.. فسأله الأمير: تُرى وماذا تحمل على ظهرها؟. فعاود عم عبدو الجري إلى المرفأ، وعاد لاهثاً ليقول: إنها تحمل بضاعة من نوع كذا وكذا وكذا.. فكر الأمير وتساءل: تُرى هل ستفرغ حمولتها في بلادنا أم أنها سفينة عابرة؟ فاضطر عم عبده للذهاب مرة أخرى إلى المرفأ ولكن بسرعة أقل، وعاد بعد برهة ليخبر الأمير بأنها ستفرغ بضاعتها في بلادهم.. سأل الأمير: وماذا ستأخذ مكانها من منتجاتنا، فكرَّ عم عبده راجعاً إلى المرفأ جاراً قدميه من تعبه ليعود للأمير بالجواب.. وهكذا.. كرر العم عبدو الذهاب والإياب، وكان في كل مرة يجيب على سؤال أميره المحدد..
( 3 )
بعد عدة أيام بينما كان عم عبدو حاضراً مع الوزير في ديوان الأمير.. رست سفينة أخرى في المرفأ، فالتفت الأمير إلى وزيره وطلب منه، تقصّى خبر هذه السفينة.. وهو ذات الطلب الذي كان طلبه من العم عبدو في المرة السابقة.. ذهب الوزير، وغاب لبعض الوقت.. ليعود حاملاً للأمير جميع المعلومات عنها.. جنسيتها، وماذا تحمل، وأين ستفرغ بضاعتها، وماذا ستأخذ مقابلها.. وأضاف: وستمكث 5 أيام في مرفئنا.. واسم قبطانها فلان، وسبق له أن جاء إلى الإمارة وتشرف بمقابلتكم.. وكل ما يمكن أن يخطر على بال أميره.. وقعد في كرسيه..
نظر عم عبدو بدهشة إلى تصرف الوزير، وسعة أفقه، وتوقعه لجميع الأسئلة التي ربما يطرحها الأمير، وحصوله على إجابتها.. وكل ذلك كان بوقت أقصر مما صرفه هو لاستكمال الإجابات واحدة واحدة، إضافة إلى أنه وفر الجهد والتعب على نفسه.. فنظر الأمير إلى عم عبدو، وكأنه يسأله: ما رأيك؟. ففهم العم عبدو مراده، وأن صفات الوزير لا تتوفر لديه.. فقال له: اعذرني، فإني داخل إلى القصر، لأرافق أولادك وأرعاهم كما ربيتك من قبل ورعيتك، فعملي هناك وليس معك بالديوان..
لأن عم عبدو أيقن أنه وإن كان قد رافق الأمير صغيراً، فإنه لا يصلح أن يكون له وزيراً، وأن العمل الذي يتقنه ويبرع به هو رعاية الأطفال ومرافقتهم.. وانسحب من المجلس بهدوء..
( 4 )
إن ما حصل بين الأمير وعم عبدو يحصل في كل حين، عندما يحاول مسؤول أو صاحب سلطة أن يختار معاونيه، فهو يقع تحت ضغط معارفه، الذين يرون أن من حقهم عليه أن يختارهم للعمل معه دون أن يعرفوا مدى مقدرتهم على القيام بذلك، فرد الجميل برأيهم هو الأولى " الأقربون أولى بالمعروف "..
وكم نحن بحاجة إلى مسؤول بحنكة الأمير وموضوعيته لدى الاختيار، فهو اختار الشخص الذي يملك نظرة شمولية لدى معالجة أي أمر، ويواجه أي موضوع من كل جوانبه، ويجمع جميع المعلومات عنه من كل مصادرها، ويتصور الاحتمالات التي قد تصادفه أثناء التنفيذ وتعيقه، ويبحث عن حلول لها.. وبعد إعداد الدراسة الشاملة المحيطة يقوم بتقديمها لرؤسائه أو للجهات الأعلى..
وعلى العكس من ذلك، نجد البعض ممن يتسرع بتقديم الإجابات قبل دراسة الموضوع بجدية ومن كل جوانبه، ليحظى بالرضى، وليوحي للآخرين عن مدى تمكنه من الأمور بحيث أنه يقدم الدراسات بسرعة كبيرة.. والمتتبع لتنفيذ المشاريع لدينا، سيقف على هذه الظاهرة " انعدام النظرة الشاملة " أو ضعفها ونقصها.. ولا أدل على ذلك، كثرة ملاحق العقود التي تبرم بعد العقد الأصلي.. فكل ملحق عقد يدل على قصور أو نقص في الدراسة التي أدت إلى إبرامه، وأن ما وفره معد الدراسة المتسرعة من زمن، دفع أضعافاً مضاعفة عند التنفيذ من جهد ومال ووقت..
( 5 )
وكما نحن بحاجة إلى أشخاص بحنكة الأمير، وإلى الظروف الموضوعية التي تساعد الأمير على حسن اختيار أعوانه ومساعديه.. فنحن بحاجة إلى أشخاص مثل عم عبدو، يعرفون إمكاناتهم ومقدراتهم والأعمال التي يستطيعون أداءها بنجاح، ويقتنعون بأن لكل منا في الحياة دوره، فيسعون إلى أداء مهامهم بإخلاص، ويكونون عوناً لنجاح الآخرين، لا معيقين أو حاسدين، وبذلك تسير الأمور على أفضل وجه، ويوضع الشخص المناسب في المكان المناسب أو المكافئ له..
* * *
الكرسي المعزول [3]
عنان شيخ الأرض [4]
( 1 )
فُتح باب مستودع الأثاث في قبو المؤسسة.. نظرتْ محتوياته إلى القادم إليه، لتتفحّص مدى اهترائه وعلاّته، فإذا هو كرسي جديد، ما تزال عليه سمات العز والدلال..
سُمع صوت من أقصى المكان يرحب ويؤهل بهذا القادم، بلهجة لا تخلو من شماتة ممزوجة بالسخرية، منادياً عليه ليقبع أمامه ليقصّ عليه ما جرى معه بعد أن تركه في المكتب ليحل محله..
( 2 )
فروى قصته.. وخلاصتها: بعد أن تم إبعادك.. دخل المسؤول في يومه الأول إلى المكتب، واتجه ليجلس خلف الطاولة، رحبت به وباركت له.. تعجب من يكون المتكلم، فلم يكن هناك سوانا نحن الاثنين.. اهتززت هزة بسيطة أشعرَته بأنني المتكلم.. فقلت له: يا سيدي إنك ستجلس عليَّ اليوم، وآمل أن أرافقك فترة طويلة.. فأجاب: إنك كرسي طيب، على ما يبدو، وأنا هنا لا أعرف أحداً، وأتمنى أن تنصحني كلما شعرت أن هناك خطأً مني أو من غيري، فأنت محلّ الثقة، لأنه لا مجال لإفسادك بطريقة أو بأخرى، ولا أظن أن لك علاقات وأغراضاً شخصية.. ونصيحتك ستكون صادقة.. فقلت: ولكن يا سيدي ألن تنزعج مني؟ لأني أخشى إن فعلت ذلك، أن يكون مصيري كمصير إخواني وأشباهي من الكراسي السابقة التي ألقيت في المستودعات وهي في قمة عطائها.. فقد أخبرني البعض أنه طُلب منهم ما تطلبه مني الآن، ولكن بعد مدة قصيرة ضجر المسؤولون منهم، وعمدوا إلى إقصائهم وإلقائهم في المستودع، معتبرين نصائحهم تدخلاً في أمورهم، وربما لاطلاعهم على بعض الأمور الحساسة، ولشعور المسؤولين بخطورة ذلك..
وهذا المصير لا أريده لنفسي، فدعني وشأني أرجوك.. ولكن المسؤول أصر عليًّ أن لا أخفي عنه أياً من الأمور التي عرفتها بنفسي أو من خلال معارفي، وانتهى أول حوار بيننا..
( 3 )
فُتح الباب بعد قليل، وبدأت وفود المهنئين تتتالى لتقديم التهنئة.. وكان البعض منهم يحمل أنواعاً مختلفة من الهدايا.. وبدأت كلمات المديح المعسولة تتقاطر من الأفواه، رافعة من قدر سيادته، وحاطة من قدر من سبقه.. وكان المسؤول يرد عليهم بلطف وعبارات شكر مقتضبة.. وعندما كانت تقدم الهدايا، كان يردّها بلطف، ولكن حاملها كان يحلف عليه بأغلظ الأيمان لقبولها، وكم سمعت عبارة " الرسول قبل الهدية " تتكرر على الأفواه، ولكنه صمد أمام الإغراءات وثبت على موقفه..
بعد خروج آخر المهنئين، سألني: كيف رأيت تصرفي؟ فأجبته: يا سيدي إن هذه الكلمات المعسولة، التي قيلت لك اليوم، سمعتُ من زملائي وأشباهي أنها سبق أن تكررت، وستتكرر من أفواه المنافقين والانتهازيين والمرائين ذوي المآرب والمصالح الذاتية النفعية.. وبذات النبرة الموحية " بصدقهم وحسن نواياهم! "، فهم يا سيدي سيزيّنون لك الأمور، وسيخفون الكثير من الحقائق التي تضر بمصالحهم.. فهم، وكما قلت لك منافقون، وما أدراك ما المنافقون.. وأعتقد أنهم من أشد الأخطار التي ستواجهك في عملك، وهم سيحاولون تكوين بطانة أو حلقة تحيط بك من كل الجوانب، لتصبح لا ترى إلا بأعينهم ولا تسمع إلا بآذانهم ولا تتكلم إلا بألسنتهم..
وهذا ما فعلوه ونجحوا به مع الذين سبقوك، فأدوا بهم إلى ما تعلم من النتائج.. فطمأنني بأنه ليس من أولئك الذين يغترون بعبارات المديح الطنانة، ولا أدل على كذب أصحابها، من أن معرفتهم بي لم تتجاوز الساعات!؟ وكان يفترض بهم ليحصلوا على احترامي، أن لا يذمّوا من سبقني.. فمنذ الآن أستطيع أن أتوقع ما سيقولون عني لدى انتقالي من منصبي..
فوافقته على كلامه قائلاً: صدقت يا سيدي فهؤلاء ما كانوا يوماً ناصحين، فإن الأخطاء التي ينسبونها إلى الآخرين هم السبب الأكبر في ارتكابها، فكم بذلوا من الجهود والحيل لدفعهم إليها وإيقاعهم في شباكها..
( 4 )
سألني: والآن ما رأيك بردي للهدايا؟ أجبته: تصرف صائب ورائع.. ولكني أظن أنهم لن ييأسوا.. وربما أن البعض منهم قد تركها خارجاً لدى السكرتارية أو مدير المكتب!. وأتمنى عليك يا سيدي، أن تصر على ردها وأن تتأكد بذاتك من إعادتها لصاحبها، وأعتقد بأنهم سيحاولون تقديم الهدايا بكل المناسبات ليقفوا على مدى جديتك وقناعتك في رفضها..
( 5 )
بعد أيام، وقبل ترؤسه للاجتماع الأول في مؤسسته، خاطبني قائلاً: شدْ همتك، وراقبني كيف سأدير الاجتماع، ولا بأس عند الضرورة أن تنبهني لما أغفل عنه، فقلت: إبدأ، وعلى بركة الله..
طُرح أول المواضيع.. سأل المجتمعين عن رأيهم فيه، فتلعثموا وترددوا، وحاول كل واحد أن يدفع الآخر للكلام.. وتجرأ شخص معروف بحصافته ونزاهته، وشرح وجهة نظره.. فلم يتفق ما عرضه من آراء ومقترحات مع ما كان لدى المسؤول من منطلقات، فخالفه.. وبدأ الحوار بين الاثنين.. وهنا انفكت عقدة لسان أكثر الحاضرين ليدعموا وجهة نظر المسؤول ويباركوها على أنها الأصوب، دون بيان أسباب مقنعة لامتداحها وتأييدها.. رفع الاجتماع دون البت بالموضوع..
سألني صاحبي عن رأيي بما جرى: هل تعتقد أن رأيي هو الأصوب، حتى أيدني أكثر الحضور؟،
فقلت: على رسلك يا سيدي، فأنت اليوم تعرفت على نوع جديد من النفاق، ألم تلحظ كيف أنهم أحجموا عن الكلام في البداية، وتركوا زميلهم المعروف باستقامته وجدّيته ليبدأ!؟ وانتظروا ليسمعوا رأيك أنت من خلال المناقشة التي دارت بينكما، وعندها بادروا لاعتماده وتبنيه، فقط لكونه صادر منك، ولاعتقادهم أنهم بهذه الطريقة سيكسبون رضاك، وهم يعملون دائماً بالمثل القائل " اربط الحمار في المكان الذي يريد صاحبه ".. وحسناً فعلت يا سيدي بعدم الفصل بالموضوع مباشرة، فان ذلك سيمنحك فرصة للتفكير به بروية، ومن وجهة النظر المخالفة، وأسأل الله أن يرشدك للخير..
( 6 )
وتمضي الأيام، وكنت أجيب صاحبي، كلما سألني عن رأيي في تصرفاته بصدق وصراحة.. فأنا، وكما قال هو ليس لدي أيّة غايات أو مآرب..
على أني لاحظت بعد فترة، أن أمثال ذلك الشخص الصادق لا يحضرون الاجتماعات، كما أنه لم يعد يسألني.. ولكن، ووفق ما عاهدته، أصبحت أنبهه لبعض الأخطاء التي بدأت تبدر منه، ولكنه ما كان ليسمع صوتي في زحمة العمل، ولعلو صوت المنافقين والمغرضين الذين أحاطوا به، ولكنني كنت أصرّ على تنبيهه وأصبحت أرفع صوتي الذي سمعه حيناً وأغفله أحياناً..
وبالأمس ارتكب صاحبي خطأً، ما كنت أظن أن يرتكبه، وقد سمعته مراراً وتكراراً يعيبه ويعيب من يرتكبه.. وحرصاً على سمعته رفعت صوتي عالياً لأنبهه، وكان هناك بعض الضيوف، وشعرت بضيقه مني.. واليوم لدى دخوله إلى المكتب،لم يرد على تحيتي، ثم قرع الجرس ونادى الحاجب آمراً بنقلي إلى المستودع..
وأنا لست نادماً على ما فعلت، كما أنني لست متأسفاً على المكان الذي تركته، فبقائي في المستودع "وتنسيقي "، أفضل من بقائي في غرفة المسؤول وسكوتي على ما أرى فيها.. ولكنه ابتعد عن الأسلوب الجماعي السليم في الإدارة و" عزل " نفسه..
* * *
عجلتا الدراجة..
أين مصلحتهما؟، الاختلاف أم الاتفاق.. [5]
عنان شيخ الأرض [6]
( 1 )
معلوم لنا جميعاً أن للدراجات عجلتين، عجلة أمامية وعجلة خلفية، إحداهما محرّكة والثانية موجّهة.. ويصعب على البعض أحياناً التمييز بين أهمية دور كل منهما.. وفي أحد الأيام أصاب بعض الغرور كلاً من العجلتين، فاختلفتا!..
إذ قالت العجلة الخلفية: طالما أنني أحرك الدراجة وأدفعها فهذا يعني أنني عجلة إدارة..
وقالت العجلة الأمامية: وهل يعقل أن يكون المدير في المؤخرة، بينما المقود في المقدمة؟ إنني أدور قبلك، وأوجهك من ورائي، إذن فعجلة الإدارة هي أنا..
( 2 )
ذكّرت العجلة الخلفية زميلتها بقصة الراعي والغنم، قائلة: إن الراعي حين يسوق الغنم يسير وراء قطيعه.. ولكن أحداً لا يقول إن القطيع يقود الراعي، بل العكس..
هنا علّقت العجلة الأمامية بحنق: إذا كنت تسمحين لنفسك بتشبيهي بالحيوانات، فالأجدر بك أن تتصوري الحمار، الذي يؤكد، وهو يسير وراء صاحبه الذي يقوده، أنه هو الآمر الموجّه، بينما المقود صاحبه!.
ثارت ثائرة العجلة الخلفية، فردت على زميلتها بغضب: ألا تشعرين بالخجل من هذا التشبيه، الذي يعتمد على الظواهر الخارجية وحدها.. ولابد من النظر إلى الأمور بشكل أكثر عمقاً، فأسلاكي مشدودة حتى النهاية، وأنا إذ أستهلك جلدي المطاطي في سن مبكرة فما ذلك إلاّ لأنني أجعل الحركة تدب فيك، بينما أنت تجرين بسهولة، ولا تتحملين أية أعباء.. ثم إنك تروغين هنا وهناك، وبعد ذلك كله تطلقين على نفسك اسم العجلة المديرة..
اعترضت العجلة الأمامية، من جديد: كفاك كلاماً فارغاُ!. فأنا لا أراوغ هنا وهناك، بل أقودك وأوجهك مختارةً الطريق الأفضل.. وأنا من يتلقى الهزات والصدمات الأولى، إن كسوتي المطاطية قد امتلأت بالثقوب والرقع.. ثم من كان يحتاج إلى حركتك المستقيمة والمحدودة، لولا قدرتي أنا على الحركة في شتى الاتجاهات؟ أنا أقودك، وبدوني لا توجد دراجة.. الدراجة هي أنا..
هنا قالت العجلة الخلفية: إذن انزعي " براغيك "، وسيري لوحدك، وسنرى ماذا سيحل بك بدوني.!..
( 3 )
لم تنه العجلة الخلفية كلامها، فقد شعرت بنفسها ترتطم بالأرض، وتقع على جانب الرصيف لا حراك بها، وذلك لأن العجلة الأمامية كانت قد انفصلت في هذه اللحظة عن الدراجة وجرت لوحدها مختالة فخورة.. فقد جرت متراً، مترين، ثلاثة، عشرين متراً.. ثم هَوتْ على جنبها هي الأخرى..
بعد أن رقدتا على جانبي الطريق بعض الوقت، وهدأت أعصابهما وبردت.. أدركتا أن لا حركة مستمرة ممكنة بدون العجلة المحركة، كما أنه لا حركة مستقرة بدون العجلة الموجهة.. وأن كلتاهما تساهمان في حمل راكب الدراجة..
( 4 )
يعكس شبيه هذا الحوار الذي دار بين عجلتي الدراجة، واقع ما يدور في خلد أغلب العاملين في المؤسسات والإدارات على اختلاف أهدافها وأنشطتها ومستواها وأنواعها وقطاعاتها، التي نجد في مستويات هرمها الإداري فئات بشرية مختلفة الأعمار والتعليم والثقافات والتجارب والخبرات.. عندما تظن كل فئة منها، أنها هي الأجدر بالقيادة وتسيير الأمور من الفئة التي تعلوها..
مع أن الواقع العملي والإيجابي، يفترض أن تكون هناك فئة تدرس وتخطط وتصدر القرارات.. وفئة أخرى، أكثر عدداً، تنفذ الخطط والقرارات وتحيلها إلى واقع ملموس، وتبذل لذلك الكثير من الجهد والعرق، مما يجعلها تظن أنها هي صاحبة الفضل، فلولا وجودها وعملها لما تمتعنا بكثير من منجزات المؤسسة.. وتعتقد أن جهودها تفوق جهود الفئة التي تعلوها، والتي ينحصر نشاطها في عمل فكري يؤدّى في غرف مكيفة ومن وراء الطاولات، دون أن يتكلفوا عناء النزول إلى مواقع العمل والتعرض لأشعة الشمس المحرقة، أو العواصف المجمدة!. ومع ذلك ترى أن هذه الفئة تحوز على الثناءات والمكافئات والتقدير، وتذهب جهودها هي أدراج الرياح!.
( 5 )
وتظن الفئة الأعلى، التي قد تكون أقل عدداً، أنه وإن كان جهدها ونشاطها فكرياً، فهذا لا يعني أنها تنعم بالراحة، فهي التي تمضي الأيام وتسهر الليالي للتفكير والتطوير.. كما أنها هي التي تقرر وتخطط وتبحث عن أفضل الطرق وأوفرها لتحقيق الأهداف.. وعلاوة على ذلك فهي المسؤولة عن كل كبيرة وصغيرة في المؤسسة وخططها ومشروعاتها، وهي في الواجهة عند المحاسبة عن أي تقصير في العمل ونتائجه، فلم لا تكون كذلك مكافأتها؟.
خاصة أنه من المعلوم أن من يستحق أن يكون في الواجهة، ويتولى شؤون الإدارة وشجونها، يجب أن يكون من أصحاب الاختصاص الذي تعب كثيراً للحصول عليه، وهو الآن يعطي المؤسسة خلاصة تجربته وخبراته ومؤهلاته وعلمه، التي أمضى الوقت الطويل من حياته لتحصيلها، وبالتالي فما دام قد أعطاها عمره، فإنه يتوجب أن تكون له إدارة دفة الأمور وتوجيهها..
جدل ونزاع يطول، بين الناس، بين فئات العاملين، بين موجه أو رئيس ومرؤوس وبين محرّك.. حتى أنه يطال العائلات والأسر، التي يشتد فيها النزاع واختلاف وجهات النظر والرأي أحياناً حول: على من تقع تدبير شؤون المنزل وتوجيهها، وما هي حدود الرعاية؟..
( 6 )
على أنه لو نظرنا إلى الموضوع على أساس التكامل والتعاون، وليس التفاضل والتنازع بين الأجيال المشاركة في أي نشاط وعمل.. لوجدنا أن لكل فرد دوره في بناء المؤسسة خاصة، والحياة عموماً.. وأنه لا بد من حسن توزيع الأدوار والواجبات بينهم، حسب إمكانات كل منهم، في كل تجمع بشري أو مؤسسة لتحقيق أهدافها.. ولخلصنا إلى النتيجة المنطقية التالية: لا أحد يفوز بحق الإدارة بشكل دائم ومستقل، وإنما هي نشاط تشاركي.. فبمثل هذه النتيجة أو الرؤية يمكننا السير في الحياة والعمل بهدوء وسعادة، وبنشاط جماعي مؤسساتي، بدلاً عن النزاع، سواء منه الباطن أو الظاهر..
وبعد، فهل تُفضل أنت أيها القارئ العزيز، اتفاق العجلتين، أم اختلافهما؟، لتكون مسيرتهما، أو مسيرتنا جميعاً، مستمرةً مطمئنة ناجحة..
* * *
إدارة عموم الزير
أولاً ـ تمهيد
كنت قرأت في مجلة مصرية عام 1981 مقالاً للدكتور حسين مؤنس، يتحدث بأسلوب هزلي ساخر عن حالات إدارية.. وخاصة عن أهمية وظيفة التنظيم وخطورة جهل مبادئها، لاسيما إذا اختلطت مع خطورة أخطبوط الإفساد والفساد..
ولما كنت أعتقد بأن التنظيم من أهم الوظائف العامة للإدارة، التي تمارس قليلاً، عند * إحداث التجمّع البشري أو المنظمة.. * وتزايدِ أهدافها وواجباتها وامتدادها الجغرافي.. * وإدخال أدوات إدارية معاصرة متطورة في نشاطها..
وأعتقد أننا بممارسة هذه الوظيفة، التنظيم وما يتلوها من إجراءات، كمن يزرع " بذرة " النجاح أو الإخفاق في مستقبل المنظمة المعنية.. لأن تنظيمها قد يكون صحيحاً فالوضع طبيعي.. وقد يكون ناقصاً في ملاكاتها وأقسامها فلا تؤدي واجباتها جيداً!. وقد تكون فيها زيادة عن الحاجة فتزداد النفقات والتكاليف، فضلاً عن ظواهر البيروقراطية والروتين..
ولما كنت أعتقد أيضاً بخطورة الإفساد والفساد.. الذي يعرقل مسيرة أي مجتمع أو تجمّع أو منظمة وتطورها، حين يستشري ويمتد بأذرعه الخفية في جميع أرجائها..
وجدت مفيداً، أن يطلع القرّاء على المقال، ورأيت أن أنشره في الموقع، تاركاً له استنتاج ما يشاء.. وأورد في الآتي ملخصاً عن المقال..
ثانياً ـ البداية
كانوا لا يخاطبونه إلاّ " بسيدنا ".. وكان يسعده هذا الخطاب.. وكان يقول: أنا أحب من قومي أن يخاطبوني بسيدنا.. وكان لا يمكث في قصره يوماً كاملاً، بل هو دائم التجوال..
وذات يوم وهو عائد إلى قصره ومعه وزيره، ومن خلفهما بعض الحرس. وكان اليوم قائظاً..
وقف الركب تحت شجرة صفصاف وارفة، وأخرج سيدنا منديلاً ليمسح عرقه، فاسترعى نظره سيلٌ من الناس يذهبون إلى ضفة النهر، وينحدرون إلى الماء فيشربون ويصدرون، ولاحظ أنهم يعانون مشقة كبيرة، فنظر للوزير وقال:
× أرى الناس يُقاسون من العطش في هذا اليوم القائظ.. ألم تفكر في شيء يخفف عنهم مشقة النزول إلى النهر لمجرد الحصول على شربة ماء؟
ـ أمرك يا سيدنا، نحن رهن الإشارة، من الممكن أن ننشئ حوضاً أو صهريجاً أو سبيلاً أو أي شيء تأمر به..
× فقال: خير الأمور أبسطها.. إذا قررنا إنشاء حوض، مات الناس عطشاً قبل أن يتم.. ضعوا هنا زير ماء.. بحمالة وغطاء وبضعة أكواز.. وليخدمه واحد من رجالنا..
وقال لأحدهم: يا صابر، هذه عشرة دنانير.. اذهب فاشتر زيراً، واملأه ماءً، وضعه تحت هذه الشجرة، واختر أحد أصحابك لتتعاونا على ملء الزير بالتناوب.. وعليك أيها الوزير بالإشراف على الموضوع.. أريد أن يكون الزير هنا اليوم مليئاً نظيفاً دائماً، والناس يشربون منه ماء صافياً زلالا..
وسار سيدنا ووزيره وبقية الحرس..
ـ والوزير يقول: ما أبدع الفكرة التي لا تخطر إلاّ على بال موهوب.. مجرد زير بسيط.. وتركه سيدنا يسترسل، وكان يعلم أن كلامه ملق ومداهنة، وهكذا كان وزراء ذلك العصر يحسبون أن هذا المديح المزخرف من واجباتهم..
ثالثاً ـ واقع الأمور
ومرت الأعوام، وذات يوم قال للوزير:
× هل تذكر الزير الذي وضعناه تحت الشجرة ليشرب منه الناس؟ أما كانت فكرة لطيفة؟.
ـ لطيفة؟. إنها فكرة عبقرية يا سيدنا.. لقد طورناها وعدلناها حتى أصبحت شيئاً مهولا..
× ماذا تعني بتطويركم إياها؟. زير وغطاء وماء وكوز وحمالة.. ماذا يمكن أن تتطور هذه؟.
ـ سيدي إنكم تعرفون أننا دائماً في تطوير وتحسين.. إن بلادنا في مقدمة البلاد النامية، لأن كل شيء فيها ينمو ويتقدم.. لا يمكن أن يظل شيء على حاله.. لا بد أن يساير الزمن..
× وكيف يساير الزير الزمن؟.
ـ في اليوم التالي لصدور أمركم لصابر، طلبته لأتأكد من التنفيذ، فوجدته فعل..ووجدت الزير تحت الشجرة والناس يشربون، وصابر وصاحبه يملآن الزير كلما فرغ.. وزاد الإقبال على الشرب، لأن الناس استعذبوا ماءه.. وذات مرة انكسر الزير، فطلب صابر نقوداً لشراء غيره..
ورأيت أن لا نستمر في حدود ضيقة، فما دام الناس يتزاحمون على الشرب، وقد أصبح مرفقاً شعبياً، ونحن " جرياً على سياستكم السديدة" لا بد أن ننهض بما يعود على الشعب بالخير.. فأقمنا بناء يحمي الزير والعاملين عليه: ثلاثة حيطان وسقف، وتزايد إقبال الناس.. وتخفيفاً لمشقة صابر وزميله طوال اليوم، بنينا غرفتين ليستريحا فيهما، ووضعنا فيهما أثاث بسيط.. ونظرنا فإذا القواعد المالية تقضي بإنشاء جهاز إداري للزير، لأن الدولة أصبح لها مبنى وأثاث و" عهدة ".. فأنشأنا مأمورية صغيرة، وعيَّنا فيها رئيس قلم ومعه كاتبين: واحد للعهدة، وواحد للشؤون المالية..
× شؤون مالية؟. ماذا تقول؟. زير ماء وغطاء وكوز.. تصبح لها مأمورية وشؤون مالية؟.
ـ حلمك سيدنا.. تعلمون أن للإدارة أصولاً.. والدولة لا يمكن أن تدع ممتلكاتها سائبة.. فما دام هناك مبنى للدولة يعمل فيه موظفون، فلا بد من إدارة مالية.. ثم اقتضى الأمر فتح اعتماد مالي لمأمورية الزير، فوضعنا فيها خزانة للنقود أودعناها سلفة، فقد ينكسر الزير أو يتلف الغطاء أو يضيع الكوز..
× ما شاء الله.. ثم ماذا؟.
ـ هذا قليل من كثير.. إننا نسير في عملنا على أحدث الطرق في الإدارة وضبط المال.. وبفضلها سنخرج من نطاق الأمم النامية إلى عالم الأمم التي تمّ نموها..
ثم رأينا تزايد إقبال على الشرب من الزير، وأن الزير وغطاءه وحمالته وكوزه ينكسر كثيراً، فحولنا المأمورية إلى إدارة، تضم أربع إدارات فرعية: إدارة الفخار، والحديد، و الخشب، والصفيح للكوز..
× فقال سيدنا: والماء الذي من أجله كل هذا.. أليست له إدارة؟.
ـ فنظر الوزير في إعجاب: والله ما خلقك الله إلا لتدبير الأمور.. لقد نسينا ذلك حتى نبهتنا!. غداً ننشئ إدارة الماء..
× ثمّ؟..
ـ ثم وجدنا أن مبنى إدارة الزير قد ضاق عن أن يسع حركة العمل الجبارة التي تدور فيه.. فاعتمدنا مبلغاً ووسعناه وزدنا فيه طابقين، وجعلناها إدارة عامة، إدارة عموم الزير..
× وكم من المال تكلف المبنى؟.
ـ شيئاً بسيطاً.. حوالي مائة ألف دينار، بالأثاث وكل شيء..
× وما هو المبلغ لإدارة عموم الزير هذه؟.
ـ لا أذكره بالضبط.. حوالي أربعين ألف دينار سنويا..
× سبحان الله.. زير وضعناه في الطريق ليشرب منه الناس، تصل تكاليفه إلى أربعين ألف دينار سنوياً، غير ما تكلفته المباني؟.
ـ هكذا شؤون الدولة يا سيدنا.. إن إدارة عموم الزير مرفق خدمات.. الاعتبار الأول لما يؤديه للأمة من نفع.. وفي سبيل هذا النفع يهون أي مبلغ..
× ما أبرعك في مثل هذا الكلام!.
ـ عفواً سيدنا.. هذا قبس منكم.. ومنكم تعلمت الدنيا فنون الإدارة.. إن كل جامعاتنا فيها معهد عال للإدارة.. ولدينا أيضاً المجمع القومي لفنون الإدارة، وفي كل منها يعمل عباقرة في شؤون إدارة الأعمال، لو رأيتهم يتناقشون ويفلسفون لانشرح صدرك بما بلغناه من تقدم، ولتأكدت من أن بلدنا قد صار في عهدكم المبارك، في مقدمة بلاد العالم..
× دعك من هذا الكلام، وقل ما توزيع الأربعين ألف دينار؟.
ـ على وجه التقريب.. حوالي 35 ألف دينار لباب المرتبات.. و 3 آلاف نقل وصيانة.. وألفان أدوات كتابية..
× والماء؟.
ـ الماء؟. لا شيء.. ركبنا مضخة لرفع الماء وتنقيته، وفقاً لآخر الأساليب العلمية، ودفعه إلى الزير في أنابيب خاصة..
× ما دام الماء ينقل إلى الزير بهذه الطريقة، فلماذا بند النقل والصيانة؟.
ـ بند النقل.. بعض السيارات أوجبت شراءها حركة العمل الكبيرة، سيارة للمدير العام، وسيارتان جيب للتنقل السريع للموظفين، وسيارة فنطاس " صهريج " لنقل الماء.. لنستخدمها في حالة تعطل المضخة.. إنها تتعطل كثيرا..
× وهل كل هذه السيارات ضرورية؟.
ـ يا سيدنا.. إن إدارة عموم الزير على اتصال دائم بدواوين الدولة الأخرى، هناك مراسلات كثيرة مع وزارات الأشغال والخزانة والاقتصاد والخارجية والداخلية و..
× الخارجية؟، ما شأن إدارة عموم الزير بوزارة الخارجية؟.
ـ المؤتمرات يا سيدنا.. لقد أصبحت إدارة ذات شهرة عالمية، ومديرها يحضر كل سنة مؤتمرين ثلاثة: في لندن، في باريس، في نيويورك وغيرها.. ألقى في المؤتمر الأخير في طوكيو خطاباً أعجب به الناس إلى درجة أننا اضطررنا إلى طبعه وتوزيعه على الدول.. شيءٌ يُعلي قدرنا..
× وهل في هذه الدول كلها إدارات عموم الزير؟.
ـ لا يا سيدنا.. إننا نفخر على دول العالم بأن تجربتنا هي التجربة الرائدة.. ولكن هذه الدول لديها مؤسسات ومعاهد للدراسات المائية.. ومديرنا العام رجل نشيط لا يدع مؤتمراً إلا اشترك فيه..
× ما شاء الله.. هل لديك تفاصيل عن هذه الإدارة العظيمة التي أنشأتها؟.
ـ لدينا ابتكار استمارات للشرب.. بعد استشارة د. وجيد وجدي، دكتوراه مع مراتب الشرف، في العلوم الإدارية والتنظيمية والحسابية، وأستاذ مادة التنسيق الليتري لإدارة الأعمال التكنولوجية في المعهد الأعلى لشؤون الإدارة.. رأينا طبع 4 استمارات.. لنحصي كل شيء.. إن الإحصاء اليوم يا سيدنا أساس سياسة الدول، وقد رأينا أن الناس يشربون ويمضون دون أن تكون لدينا فكرة عن أعدادهم أو أنواعهم..
× فهمت.. وما هذه الاستمارات؟.
ـ استمارة بيضاء يملؤها الذين يمرون بالزير ويشربون مرة واحدة ولا يعودون.. واستمارة حمراء للذين يشربون كل يوم مرة واحدة بانتظام.. واستمارة صفراء لمن يعتمدون على الزير في شربهم طول الشهر، هؤلاء استمارتهم على هيئة بطاقة تحمل صورهم.. ورابعة زرقاء تحرر في الإدارة العليا للحاسب الإلكتروني.. إن عملنا يجري على أحدث الأساليب العلمية، ولدينا تقرير سنوي مفصل مبين فيه مصير كل نقطة ماء تصل إلى الزير..
رابعاً ـ الاستطلاع
وفي اليوم التالي قال سيدنا لنفر من رجاله وحاشيته: خذوني إلى إدارة عموم الزير، وقولوا للوزير يلحقني..
وحين وصل، وجد مبنى شاهقاً كتب عليه " إدارة عموم الزير " بخط الثُلث العظيم، وناس كثير داخلين وآخرون خارجين، وسيارات تصل وتغادر، وحركة كبيرة متصلة.. وعلى الباب امرأة تبيع عرضحالات وطوابع، وأعطت ابنها الطفل بعضاً منها فوقف بها إلى جانب الباب..
× قال سيدنا: أحيطوا بالدار فلا يدخله ولا يخرج أحد، ونبهوا كل موظف وفراش أن يبقى في مكانه إلى أن نخرج.. ودخل فجعل يتأمل الناس رائحين غادين.. وطلب أن يأخذوه إلى غرفة المدير العام، فإذا سيادته غير موجود، ولكن وكيل الإدارة خفّ إليه مرحباً.. فجلس على أريكة وثيرة، وقال للموظف: لقد سمعت الكثير عن هذه الإدارة وعن نشاطكم فيها.. كيف الحال؟.
ـ طيب جداً بفضلكم يا سيدنا.. كل شيء يسير على أحسن صورة، لو أن العمل يتزايد، فنحن بحاجة إلى مزيد من الموظفين..
× سنرى.. تعال لنرى أقسام إدارتكم وسير الأعمال..
وسار الوكيل إلى جانب سيدنا، وبعد قليل لحق به مدير الشؤون العامة، قدم نفسه وحيّا تحية عظيمة وسار يشرح..
ـ هذه إدارة الخشب: غرفة المدير، غرفة السكرتير الخاص للمدير، سكرتارية الإدارة، المكتب الفني، غرفة خبير الأخشاب، إلى آخره، إلى آخره..
وصل سيدنا إلى باب لم يكتب عليه شي، فدخل، فإذا خلية نحل: مكاتب، مكاتب.. موظفون يقرؤون الجرائد ويكتبون ويتحدثون.. آنسات يكتبن على الآلة الكاتبة ويقرأن المجلات الملونة ويثرثرن.. فراشون ذاهبون بالقهوة والشاي والسندويش، وعائدون بالأكواب الفارغة.. لغط كثير وكلام كثير... أسرع إليه رجل، وقدم نفسه: خادمكم رئيس قلم الصادرة والواردة.. وسار معه سيدنا حتى وقف أمام مكتبه، ورأى أكوام الأوراق والدفاتر وعليها السجلات، فتناول بعض الأوراق وسأل عن ماهيتها..
ـ هذا خطاب من إدارة الخشب إلى إدارة الحديد.. وهذا من إدارة الحديد إلى إدارة الخشب، تقول فيه: تحية طيبة وبعد، فنتشرف برجاء الرد على خطابنا رقم ... وتاريخ ... بشأن طلب سماكة غطاء الزير المستعمل للاسترشاد به في تحديد سماكة حمالة الزير... وهذا من إدارة الشؤون المالية إلى إدارة شؤون العاملين.. وهذا من إدارة شؤون العاملين إلى إدارة الشؤون المالية..
وكان الوزير قد وصل..
فسأله سيدنا: أين المدير العام؟.
ـ إنه في مؤتمر في بودابست..
× كيف عرفت بهذه السرعة أنه في بودابست؟. هل تعرف كل حركة أو سكنة لموظفي دولتنا؟.
ـ لا.. ولكن!. فقال أحد الواقفين مع التشفي: إن سيادة المدير العام ابن أخت السيد الوزير وصهره.. فقال الوزير: ما عينته لأنه قريبي، بل لأنه المختص الوحيد في هذا الموضوع، لقد درسه في أكبر الجامعات..
وسار سيدنا من مكتب لمكتب، ومن طابق لطابق.. يتفرج ويتعجب..
× ثم قال للوزير: والزير؟ أين الزير؟.
ـ إنه في قاعته الخاصة، في الدور الأرضي..
وأسرع مدير الشؤون العامة يريد أن يسبق الجماعة، فناداه سيدنا: لا تسبقنا..
ودخلوا قاعة يغطي الغبار كل ما فيها، لها باب يفتح على الطريق في الناحية الخلفية من المبنى، وعلى الباب جلس على منضدة عرجاء موظف ينطق مظهره بالتعاسة، وأمامه أربع مجموعات من الاستمارات: بيضاء، وحمراء، وصفراء، وزرقاء.. وإلى جانبها سجل ضخم مفتوح، والموظف يتحدث مع صاحب له، ولا ناس هناك داخلين وخارجين.
× قال سيدنا: هذه قاعة الزير؟.
فقال مدير الشؤون العامة بعد لحظة ارتباك: نعم.. نعم.. إننا ننشئ الآن قاعة أخرى..
× والزير؟. أين الزير؟.
فنظر مدير الشؤون العامة ووكيل الإدارة أحدهما للآخر، ثم للوزير، ثم إلى حنفية في الجدار، أشار أولهما إليها وقال: كان ينبغي أن يكون هنا.. وقفز الموظف الجالس جانب الباب، وقال: الزير أرسلوه إلى الورش الأميرية يا سيدنا..
× منذ متى؟.
ـ من أربعة أشهر، خمسة.. كان الماء يتسرب منه، فقررت لجنة من الخبراء نقله إلى الورش الأميرية ليصلحوه..
× فضرب سيدنا كفاً بكف وقال: إذن.. هذا كله.. ولا زير؟.
ـ فقال مدير الشؤون العامة: لا، لا يا سيدي.. الزير موجود.. فقط في الإصلاح.. سنقوم باستعجالهم.
ونظر سيدنا فإذا رجل مسكين هزيل ينهض عن كرسي غير بعيد من موضع الزير ويقبل نحو سيدنا،
× وصاح سيدنا: صابر؟.
ـ نعم يا سيدنا.. خادمك صابر.. فقد كذبوا عليك يا سيدنا.. الزير ليس هنا منذ سنتين..
× وأنت؟ مالك شاحب الوجه ضعيفاً كما أرى؟.
ـ إنني لا أتقاضى مرتباً من سنتين يا سيدنا.. إنني أموت جوعا..
× سبحان الله يا ناس.. الوحيد هنا الذي له عمل معلوم.. الوحيد الذي أقام في موضعه مخلصاً.. لا يتقاضى شيئاً.. وكل هذه الزنابير تقبض مرتبات.. والتفت إلى وكيل الإدارة وقال: لماذا لا يقبض هذا الرجل راتبه؟.
ـ لأن له إشكالاً إدارياً مالياً.. فقد كان صابر تابعاً لإدارة حرس سيدنا، ثم تقرر نقله من سنتين ونصف إلى إدارة عموم الزير، فوجدنا أن راتبه لا تنطبق عليه اللوائح المالية فسألنا وزارة الأشغال.. ونحن نتبعها، وهذه بعثت تسأل ديوان الموظفين، وهذا أرسل يسأل مجلس الدولة..
× كل ذلك والرجل لا يتقاضى ما يتقوت به؟.
ـ لا نستطيع إعطاءه راتباً يا سيدنا.. من يتحمل المسؤولية؟. ثم إنه لا يحمل مؤهلات.. عندما أردنا تقييم وظيفته لم نستطع، وكذلك لم نعرف على أي أساس نصرف له راتبه.. لذلك سألنا الجهات المختصة، وللآن لم يأتنا رد.. ما ذنبنا؟.
فسار سيدنا خطوات حتى بلغ كرسي صابر فانحط عليه، ولبث لحظة يلوم نفسه على أنه كان السبب في مصيره، ثم نظر إلى صابر، وقال: من الآن.. تعود إلى قصرنا كما كنت.. ويصرف لك راتبك عن المدة الماضية ويضاعف لك الراتب.. من الآن..
ثم قال للوزير: اكتب يا أخانا هذا كله.. هذه أوامر لك.. أنت ستقوم بالتنفيذ. اسمع يا صابر.. خذ.. هذه عشرة دنانير.. اشتر زيراً وما يلزمه، وضعه تحت شجرة.. أين الشجرة التي وضعت تحتها الزير الأول؟.
ـ كانت هنا.. قطعوها ليقيموا البناء..
× سامحهم الله.. بل لا سامحهم.. وأين زميلك الذي كنت اخترته ليعمل معك؟.
ـ مات.. أماتوه..
× فصاح سيدنا: كيف؟.
ـ عندما أرادوا قطع الشجرة حاول منعهم، فضربوه وفصلوه.. فمات غما..
× فقال: ابحث لي عن زوجته وأولاده، وقل لرئيس شؤون القصر يحسن عوضهم ويرتب لهم معاشاً كافيا..
× وقال للوزير: أما أنت يا صاحبي فقد أنشأت هذا كله، وحملت ميزانية الدولة نفقات باهظة لكي تخدعنا وتعيّن أقاربك بعد أن ضيعت الغرض الأساسي الذي توخيناه.. فأما المبنى فسنرى كيف نستخدمه في أمر آخر من مصالح العباد.. وأما هؤلاء الموظفون فأنت عينتهم كلهم وأنت ملزم بهم.. من مالك الخاص تدفع رواتبهم كما قررتها لهم..
ـ فصاح الوزير مرتاعاً.. ولكن يا سيدنا.. إن مالي الخاص لا يحتمل تلك النفقة.. سينفذ بعد شهر واحد..
× لن ينفذ بعد شهر ولا أشهر.. وبعد أن ينفذ مالك يأخذون رواتبهم من مال زوجتك وأولادك وأخوتك وأبناء عمك وأبناء خالتك وبقية أقاربك الذين أغنيتهم من مال الدولة.. ستظلون تدفعون رواتب أولئك الناس دون خصم أو خفض أو نقص، حتى ينفذ كل مالكم وتعودوا كما عرفناكم..
× يا وكيل الإدارة.. عليك تنفيذ هذا وأنت مسؤول أمامي..
× أما السيد المدير العام فاستعيدوا منه كل درهم أنفقه في رحلته وكل رحلة سابقة قام بها، فهي رحلات ملفقة مصطنعة، ثم دعوه لقريبه الوزير يرتبان أمورهما كما يريدان..
خامساً ـ صفوة القول
لن أستطرد.. وأكتفي بأن يستنتج القارئ ما يشاء.. ولكن لا يصحّ أن تبقى الإدارة " مجهولة، ومظلومة "..
* * *
عنان شيخ الأرض [8]
( 1 )
كان في طرف المدينة حقل مزروع بالبنفسج، تنمو فيه الزهرات بلونها الرائع وسط الخضرة المتميزة لأوراقها، وتداعبها نسمات الربيع كلما مرت فوقها فيعبق شذاها بالجو زكياً عطراً.. وكان الحقل محاطاً بسور، وضعه صاحبه خوفاً عليها من عبث العابثين من الأطفال أو الكبار ذوي التصرفات الطفولية.. وكانت الزهرات الجميلات تسمع الأصوات الآتية من خلف السور دون أن تعرف كنهها أو ماذا تدل عليه..
وكان بينها زهرة طموحة، فسألت شجيرة ورد كانت بجانبها تشرف على سور الحديقة عما يوجد خلفه؟ وماذا تعني تلك الأصوات التي تسمعها؟ وسألتها لماذا نحن هنا؟ وما دورنا في الحياة؟ فهل غاية وجودنا أن نعطي من يرانا المنظر الجميل ومن يشمنا العبق الذكي؟.
انزعجت الشجيرة من هذه الأسئلة، وطلبت منها خفض صوتها كي لا تسمع الزهرات الصغيرات تساؤلاتها فينتقل حماسها إليهن، وطلبت منها الاقتناع بما أعطاها الله من جمال، وأن لا تفكر فيما يوجد بالخارج، فهي إن علمت ستتعب، وقد تكون بذلك نهايتها وموتها.. وأخذت تعدد لها مزايا وضعها الحالي، فهي تعيش بأمان بعيداً عن أيدي العابثين وعن الريح القوية التي عندما تغضب تعصف وتقتلع حتى الأشجار الكبيرة، بينما هي وأخواتها لا يصبهن من غضب الريح أي ضرر..
( 2 )
لم تقتنع البنفسجة بجواب شجيرة الورد، وقالت: إن الحياة لا تعني فقط أياماً نعيشها بهدوء وسلام آمنين مقتنعين بجهلنا دون المغامرة لمعرفة ما يجري حولنا، ودون القيام بدور يترك أثراً في النفوس يذكر بعد رحيلنا.. فالمتعة في الحياة هي دق باب المجهول، والسعي لكسب المعارف والعمل على تطوير ذواتنا.. وأسدل الليل ظلامه فقطع الحديث بينهما..
لم تنم البنفسجة ليلتها وسهرت تفكر: لو كان قد قدر لها أن تعيش أياماً معدودة في حياة رتيبة، وقسم لها من القوة ما يكفي لحياة هذه الأيام، فلم لا تستجمع هذه القوة لتنمو وتعلو فوق السور، تتعلم وتعرف ما حولها، وإن لم تعش سوى يوم واحد، وعسى أن تكون بتصرفها هذا، محرضة لغيرها لمتابعة المسير والارتفاع..
( 3 )
في الصباح، دهشت شجيرة الورد والبنفسجات بأختهن التي طال عودها أعلى من السور، فاستطاعت رؤية ما خلفه، ونقل ما تراه لهن وتعرفهن على معنى تلك الأصوات التي يسمعنها..
سمعت الريح إعجاب الزهرات بأختهن، وظنت أن البنفسجة تتحداها بما فعلته، فثار غضبها وعصفت عصفة واحدة ألقت بالبنفسجة الصغيرة طريحة فوق أرض الحديقة..
اجتمعت البنفسجات حول أختهن المحتضرة، مؤنبات لها على رعونتها وتصرفها الطائش الذي أودى بحياتها.. لكنها نظرت إليهن نظرة إشفاق، وأعلمتهن بأنها راضية عما فعلت، ففي ما رأته وتعلمته خير لها من الأيام الباقية التي كانت ستحياها برتابة، وطالما أن النهاية واحدة فلماذا نقنع بالقليل؟.
( 4 )
دُرست لنا هذه الحكاية في المرحلة الإعدادية، وكان الطالبات الزميلات ينقسمن إلى قسمين عند مناقشة تصرف البنفسجة الطموحة.. قسم يؤيدها وطموحها وفضولها، فالحياة لا قيمة لها إذا لم يقم الإنسان بالتعلم والتطور، وقسم يرى أن على الإنسان أن يقتنع بما كتب له، وبذلك يعيش هادئاً ويبتعد عن المشاكل والهموم..
عادت هذه الحكاية إلى الذاكرة، مع ما أراه من أحوال الشباب الذين حين يدخلون الوظيفة العامة، يقدمون على العمل بهمة عالية وأماني كبيرة باذلين ما عندهم من علم ومعرفة في سبيل تطوير العمل، خاصة وأن التطوير والتحديث هو الشعار المرفوع للمرحلة الراهنة، في سبيل ردم الفجوة بيننا وبين الدول المتقدمة واللحاق بها، وهي آمال تدغدغ أفكار الشباب.. ولكن ما يلبثوا أن تتلقاهم أيدي بعض العاملين القدامى، ذوي العقلية المحافظة، أصحاب الهمم الفاترة، المتمسكين بالأسلوب القديم في أداء العمل، الرافضين لكل تجديد وجديد.. فيبدؤون بإقناعهم بخطورة المجازفة في تطوير ما أوكل إليهم، والمجازفة بتطبيق ما تعلموه، وأن أسلم طريق هو السير على النهج المرسوم الذي يتبعه العاملون منذ عقود، تطبيقاً للمثل " اربط ..... مطرح ما يريد صاحبه"! ولا ينسون تهديدهم بالإدارة وغضبها إذا خولفت تعليماتها، ويقنعون العاملين بأن حقهم ينحصر بقبض الراتب، فإذا أردت راتبك سليماً دون حسميات فلا تعارضها..
( 5 )
لو حدث مرة، أن كان من بين العاملين الجدد عامل طموح لم يقتنع بترغيب وترهيب العاملين القدامى، فمضى محاولاً تحديث القسم الذي عين به وفق ما تعلمه في الدراسة والدورات التدريبية التي اتبعها، وأخذ يبذل قصارى جهده لإدخال الأدوات الإدارية المتطورة التي تختصر الوقت وتخفف ظواهر الروتين المرضية.. ولكنه ماذا سيواجه في سبيل تحقيق هدفه؟!.
إذا كنا من المتفائلين، سنقول: هذه صورة من تكامل الأجيال، فستتلقاه الإدارة بترحاب، وتساعده لتذليل الصعوبات التي تواجهه، وتأخذ بيده لتطوير ذاته بإلحاقه بدورات تدريبية داخلية وخارجية، بما يعني تطوير المؤسسة.. ولكن الواقع الغالب مع الأسف، هو محاربته، ومحاولة كبح طاقاته وصرفها في أمور ثانوية، إن لم يقم أولو الأمر في المؤسسة بنفيه إلى مواقع أخرى لا تتلاءم مع رغبته ودراسته، وبذلك لا يستطيع العمل على التغيير.. وإن كان صاحبنا ذو همة عالية ونفس طويل، فإنهم على استعداد لنقله لمواقع أخرى! وهكذا..
( 6 )
إن الحيوية والطموح الذي يمتلكه الشباب المتعلمين المؤهلين للتطوير والتحديث، يحتاج إلى سيادة أسلوب العمل الجماعي المؤسساتي في كل مؤسسة أو تجمّع ينتسبون إليه، مضافاً إليه الإيمان بفائدة تكامل الأجيال المتتالية، مما يوفّر لهم أيد مخلصة تحتضن طاقاتهم وتقدم لها المساعدة لها، وهذا يحتاج إلى إدارة رشيدة وواعية تُنسق بينهما..
وبما أن الإدارة لدينا ما زالت مظلومة يمارسها الكثيرون بدون إعداد علمي وعملي، مما يؤدي إلى كثير من الإخفاقات المقصودة وغير المقصودة، فإني أضم صوتي إلى صوت كل من يطالب بإحداث وزارة " ذات حقيبة" تهتم بشؤون الإدارة وإصلاحها، وهذا ما أخذت به العديد من الدول العربية، فمتى نفعل؟!.
* * *
الصـدوع..
والتعامل مع الإمكانات المتنوعة.. [9]
عنان شيخ الأرض[10]
( 1 )
كان لدى سقّاء هندي جرتان كبيرتان، يعلقهما إلى طرفي عصا، يضعها على كتفيه.. وكانت في إحداهما صدوع " مسام " كثيرة، والثانية كتيمة لا يتسرب منها الماء.. فلا يبقى في المتصدعة عند وصوله إلى بيته، من الماء إلاّ نصفه..
ودأب على ذلك يومياً طيلة سنتين..كانت فيهما الجرة الكتيمة تتباهى بنجاحاتها، إذ هي تفي بالأغراض التي صنعت لأجلها.. أما الجرة المتصدعة، فكانت خجلى، وتشعر بالتعاسة، لأنها كانت تظن أنها تقوم بنصف واجبها، فخاطبت ذات يوم السقّاء قائلة: أنا خجلى، وأريد أن أعتذر منك، فبسبب صدوعي، لا تحصل إلا على نصف ما أحمل، فلا تكسب إلا نصف المبلغ..
قال السقّاء: في طريق عودتنا إلى المنزل، أريدك أن تري الورود الرائعة التي تنمو على جانب الطريق.. فهل لاحظت أنها لا تنمو إلاّ على الجانب الذي تمرين فوقه؟. لقد انتبهت إلى صدوعك منذ زمن طويل، وأردت الاستفادة من الجانب الإيجابي فيها.. فنثرت بذورها على طول الطريق، حيث ترين، وكنت أنتِ التي تروينها كل نهار، على مدى سنتين.. وقد جمعت منها الورود لأزين بها هيكل معبدي.. لو لم تكوني كما أنت تماماً، بعيوبك التي تظنين!، ما حصلنا على هذا الجمال كله..
( 2 )
نرى في حياتنا، وعلى أصعدة مختلفة، أناساً لا يتمكنون من إعطاء ما يُرجى منهم، أو لا يؤخذ منهم بقدر إمكاناتهم الفعلية، برغم بذلهم الجهود في سبيل ذلك.. وآخرين متميزين ومبدعين ينجزون كل ما يوكل إليهم بدقة وإبداع..
ففي الأسرة الواحدة، هناك أشقاء برع بعضهم إلى حد الإبداع في معظم النواحي، وآخرون لم يخصهم اللّه بذات الميزات.. ونرى الأهل، وبحكم الفطرة البشرية، بحب التفوق والسمو، يحيطون المبدعين بالاهتمام والتقدير، ويميزونهم عن الآخرين بتقديم جميع ما يحتاجونه، معتقدين بأن هذا العطاء " غير ضائع فيهم "، ناسين الآخرين، لأنه " لن يطلع معهم شيء "!. دون بذل أي جهد وتكلّف العناء للبحث عن إمكاناتهم الفكرية والجسدية والنفسية والأخلاقية... واكتشافها.. مهما صغرت أو دقّت، لتنميتها وتوسيعها للاستفادة منها إلى أقصى حد..
وفي مدارسنا، يهتم المعلمون بالطلاب المتفوقين، ممن يحصلون على أعلى العلامات، ويبدعون في كل ما يطلب منهم، متناسين أولئك القابعين في المقاعد الخلفية، ينظرون إليهم بعيون مستعطفة، ترجو بعض الاهتمام، فهم يعرفون أن إمكاناتهم مختلفة عن إمكانات زملائهم، ولكن لديهم أيضاً صفات طيبة وإمكانات ما، لو فتّش عنها المعلمون، بجد وصبر، لوجدوها وغذوها، وكشفوها لحاملها، ليستفيد منها ويفيد..
( 3 )
ونلاحظ الوضع نفسه في مجالات العمل.. حيث نجد فئة من العمال تخرجوا من معهد واحد، ويعملون في ذات المكان والظروف، ولكن بعضهم يتقدم وينجز ويبدع، فينال الشكر والثناء والمكافآت، والبعض الآخر "مكانك راوح " يسمعون اللوم والتوبيخ، وهم بإمكاناتهم " غير المكتشفة " لا يستطيعون التقدم وإنجاز ما يوكل إليهم كما الآخرين، ومع الزمن، يملّون من المراوحة بالمكان، ويقعدون كسيحين.. على أنه لو حاول المسؤول عنهم كشف مكنوناتهم، وتحديد مقدراتهم المختلفة، وأسند إليهم من الأعمال ما يتلاءم معها، لحصل على نتائج أفضل، إذ يصبح العمل عندهم متعة، ويشعرون بالراحة والاستقرار، فيندفعون إلى مزيد من العطاء..
وكم من المديرين لم يتمكنوا من لمس مكامن العطاء لدى جميع مرؤوسيهم، فهم بحكم ضغط العمل والوقت، يميلون للتعامل مع المتميزين، فيحملونهم من الأعمال فوق طاقاتهم.. وربما نتيجة لذلك يخصونهم بالمكافآت والحوافز، موبخين الآخرين الذين أوكلوا لهم ما فوق طاقتهم أو ما لا يتفق معها، فهم يطلبون منهم رفع مستواهم مع علمهم بمقدراتهم المختلفة، ودون محاولة منهم لمعرفة امكاناتهم الفعلية، وتكليفهم بما يطيقون، بحيث تتم الاستفادة منها كاملة في أوجه كثيرة.. علماً بأن في تنوع أعمال أية مؤسسة متسعاً لاستيعاب الجميع بإمكاناتهم وقدراتهم الذهنية والجسدية المتنوعة أيضا..
( 4 )
إن عدم تلمس المسؤولين عن الأفراد، بدءاً من الأسرة " الأم والأب "، مقدرات مرؤوسيهم المتعددة، يخلق خللاً كبيراً في العلاقات لدى الجميع.. لأن إحاطة المبدعين والمتميزين بالاهتمام والعناية بهم على حساب الآخرين يولِّد لديهم الغرور والتباهي، إذ هم يشعرون بالحظوة والمكانة المرموقة أينما وجدوا.. ومعلوم أن الغرور قتّال ويشكل خطراً عليهم بالذات، ويحد من طموح البعض لتحصيل المزيد من المعارف، فيتوقفون عند ما وصلوا إليه، وبذلك يقتلون إبداعهم بذاتهم.. كما أن التمييز بالتعامل، يخلق لدى الطرف الآخر، الشعور بالنقص، وعدم الثقة بالنفس، وقتل ما لديهم من ملكات، فهم يعرفون بأنهم وإن حاولوا الوصول إلى الهدف، فإن الآخرين يسبقونهم، ويكون وصولهم متأخراً، لا يشعر به أحد، هذا إن لم يعد عليهم بالهزء والسخرية..
( 5 )
وآمل أن لا تقتصر عملية التقييم التي تجريها الإدارات الآن لترفيع العاملين مع بداية العام القادم، على تحديد الدرجة المؤهلة للترفيع، التي نضعها غالباً بهدف ترفيع الجميع لأسباب إنسانية واجتماعية واقتصادية.. بل أن تستهدف الجانب الأهم للتقييم، الذي تُفترض فيه الموضوعية، وهو الوقوف على إمكانات العاملين الفعلية، ومحاولة الاستفادة منها في مختلف الميادين، وذلك بتكليف العامل العمل الذي يتلاءم مع مقدرته، وتدريبه وتأهيله في هذا العمل الملائم له، وصقل مواهبه التي لابد أن تتفجر عطاءً، بحيث يؤدي الجميع في المستويات العليا والوسطى والقاعدية، واجباتهم بشكل متكامل..
( 6 )
وأشير أخيراً، إلى أن لكلٍّ منا نواقصه، فلا أحد كامل.. وكلنا جرار متصدعة " ذات مسام ".. لكن يجب أن نعلم أن هناك دائماً ثمّة طريقة ما، للاستفادة من " الصدوع " للحصول على نتائج طيبة..
* * *
فيتامين "ص"..
أم ظروفاختيار الرجل المناسب؟. [11]
عنان شيخ الأرض [12]
قصّ الراوي، عن ما يرى النائم في أحلامه، المحاورة التالية..
( 1 )
قال الوالد: هلكنا ولا حيلة لنا.. أقفلوا الأبواب في وجه الولد.. سأله صديقه مستغرباً: ألم يحصل ابنك على شهادة الهندسة؟!
أجابه الوالد بحسرة: حصل، وترتيبه الثاني على زملائه.. قالوا نريد أثنين نرسلهما بعثة، فتقدم ونجح في الاختبارات اللازمة.. ثم ماذا؟ وقع اختيارهم على واحد غير ابني.. تصور؟! والآن يعرضون عليه العمل معيداً في الكلية..
سأله صاحبه: لماذا لا يعمل في إحدى الشركات ؟ أجابه الأب متلهفاً: نحن بعرضك، دلّنا على شركة.. فنحن الاثنان لنا ثلاثة أشهر ونحن نبحث عن رجل كريم، كي يعاونه على الالتحاق بإحدى الشركات الجديدة..
( 2 )
هزّ الصديق رأسه باهتمام، وقال: أتعرف ماذا ينقص ابنك؟ ينقصه فيتامين.. استغرب الأب، وقال: ولكن صحة ابني جيدة وهذا ما تشهد به الفحوصات الطبية.. قال الصديق: ينقصه فيتامين " ص "..
فتح الأب فمه باستغراب: فيتامين " ص " لم أسمع بهذا الفيتامين.. سمعنا عن فيتامينات أ، ب، س، د.. ولكن فيتامين "ص" شيء جديد عليّ.. رد عليه صاحبه: لا، إنه ليس جديداً، وكل واحد منا لابد وأن يستعمله..
رد الأب وقد ازداد استغرابه: إذا كان الأمركما تقول، فدلني على الصيدلية التي تبيعه!. تبسم الصديق قائلاً: اسمع يا صديقي، إن الحروف التي تسمى بها الفيتامينات هي اختصارات لأسمائها العلمية، فمثلا فيتامين " س " الذي يوجد في الفواكه والخضراوات، يمكن الاستعاضة عنه بحامض يحضر في المعامل يسمى حامض "سكوربيك " ولهذا يرمز إليه بحرف " س "، وكذلك " ص " رمز يدل على أربع عناصر حيوية هي: صداقات، صلات، علاقات، توصيات، وساطات.. وهذه عناصر لا توجد عند كل الناس، ولكنها توجد وتحضر تجارياً عند جماعة من أهل بلدنا، يُسمون عادةً بالشخصيات الكبيرة.. وكما تحضر الفيتامينات الأخرى بصور مختلفة، كالحبوب والشراب و.. فكذلك فيتامين" ص " يستخرج من هؤلاء الناس على شكل بطاقات، رسائل، مكالمات تلفونية.. فلا بد لابنك من بعض أنواع هذا الفيتامين كي يتمكن من شق طريقه في الحياة..
( 3 )
أجابه الأب: حسناً، ولكن ما العمل ونحن ليس لنا أحد من هؤلاء الذين ذكرت.. أجابه صاحبه: أنت تعرف أنك تستطيع أن تحصل على 3 فيتامينات هي أ، ب، س، بدون ثمن تقريباً من البندورة مثلا.. فإذا تعذر عليك الحصول عليها من البندورة، أو إذا كنت لا يستطيعون هضمها ففي استطاعتك شراء زجاجة الفيتامين من الصيدلية..
وهكذا الأمر في فيتامين " ص " إذا لم تكن من ذوي الصداقات والصلات.. أو إذا كنت لا تستطيع هضمها، لأن صداقات هؤلاء الناس عسيرة الهضم أو إذا كان جسمك لا يقبل المحسوبيات.. فلا بد من شراء مقدار منه من أحد منتجيه، فهناك مورِّدون له معروفون، يتهامس الناس بأسمائهم بحذر، كما يتهامس تجار المخدرات بأسماء الموردين الأشرار، وما عليك إلا البحث عن واحد منهم..
سأل الأب: ألا تعرف لنا أحدا؟، أجابه: يا ليت، فإن تجارة فيتامين " ص " في السوق السوداء.. على كل الأحوال فليس من العسير عليك أن تجد واحدا منهم..
رد الأب بقلق: ولكن أخشى أن يكلفني ذلك كثيرا!، أجابه: أنت وحظك، المسألة مسألة سوق سوداء، وليس لها تسعيرة.. ولكي تقضي حاجتك ينبغي أن تقبل بالسعر الذي يحدده المورد.. ردد الأب: ولكن هذه مصيبة، وماذا علينا أن نفعل؟، أجاب الصديق ببرودة: هذا هو الوضع، اشتر مستقبل ابنك كما تشتري صحته، فهو وإن لم يكن مريضاً صحياً، فهو مريض بنقص فيتامين " ص "، فكل المساكين الطيبين في أغلب بلاد الدنيا مصابون بهذا المرض..
( 4 )
إنه مرض متوطن كالبلهارسيا وغيرها من الأمراض، ولا بد من جهد جبار للقضاء عليه، لابد من مستشفيات أخلاقية تعالجنا وتحمينا منه، لا بد أن يعرف المسكين الفقير وسيلة أخرى للحصول على فيتامين "ص " غير وسيلة السوق السوداء، بل ينبغي التوصل إلى اكتشاف يغني الإنسان أصلاً عن فيتامين " ص ".. ولابد من إبطال مفعوله بأية وسيلة، حتى يستطيع كل إنسان أن يسير في طريقه بمؤهلاته وملكاته من غير حاجة إلى حبوب أو شراب أو..
ومما يساعد على الشفاء منه، أن تنظم الجهات المعنية المسؤولة، التوصيف الوظيفي لكل وظيفة، بشكل واضح وبسيط، وأن تحدد لها الشروط أو الظروف الواجب توفرها فيمن يمكن أن يشغلها.. فيستطيع عندها من يحوز هذه المؤهلات والشروط اللازمة، أن يسمى أو يُعين عليها.. بحيث ينجح في أدائه، وتستفيد من وجوده وإمكاناته الجهة التي سمحت له أو ساعدته على إشغال الوظيفة المناسبة له أو المناسب لها..
( 5 )
واستيقظ الوالد من نومه حائراً بين الأمرين.. وانقطعت المحاورة بينه وبين صاحبه.. ولكنه تمنى أن تُتخذ تدابير الشفاء في وقت قريب.. ليرتاح هو وولده وأمثالهم.. ويبتعد عنهم شبح فيتامين " ص " أو غيره..
* * *
هل ينجح الباب المتعجرف؟.. [13]
عنان شيخ الأرض [14]
( 1 )
بنى الفلاح منزلاً جديداً، وصنع له باباً جميلاً من خشب البلوط..
أُعجب الجميع بهذا الباب، فراحوا يمدحونه ويتحدثون عن جماله وجودته.. وكان الجيران ينظرون إليه بإعجاب.. فقد كان يغلق بإحكام، ولا يسمح لهواء الشتاء القارس أن يتسرب إلى الداخل، ولم يكن يسمح لغريب باقتحام المنزل، مهما كانت قوته.. وهكذا اعتاد الباب يومياً على سماع كلام المديح والإطراء..
( 2 )
ذات يوم، أخذ رب العائلة يوجه اهتمامه ناحية النافذة، ولماذا لا يهتم بها، وهي بالكاد تفتح وتغلق، كما أنها تصدر أصواتا مزعجة، ثم هي كثيرة الشقوق التي يتسرب منها الهواء البارد إلى الغرفة..
وبين عشية وضحاها نسي أفراد العائلة الباب المصنوع من خشب البلوط وركزوا جلَّ اهتمامهم على النافذة.. وهذا ما أثار حنق الباب، فأعلن غاضباً اعتراضه على هذه الحال، وصار يتهدد ويتوعد..
وبدأ منذ ذلك اليوم يصدر الأصوات المزعجة عندما يفتح أو يغلق، وانكمش على نفسه فشكل شقوقاً واسعة بينه وبين الجدار، مما سمح للهواء بالتسرب منها إلى المنزل..
( 3 )
عاد أفراد العائلة يهتمون بالباب، فسدوا الثغرات الموجودة فيه، ووضعوا الزيت في الأماكن التي تصدر الأصوات المزعجة.. مع ذلك استمر الباب في عناده، وبدا صريره من القوة والإزعاج بحيث لا يطاق..
ذات صباح، فوجئ الباب برب العائلة وقد أحضر باباً جديداً، وانتزعه من مكانه وألقى به بعيدا..
قرر الباب القديم الاستمرار في سلوكه والانتقام.. وكم كانت دهشته كبيرة عندما اكتشف أنه عاجز عن القيام بأي شيء، وأنه لا يساوي شيئاً دون منزل، حتى أنه عاجز عن إصدار الأصوات المزعجة، وفي أحد الأيام الباردة، جاء رب العائلة وبيده منشار هائل، وراح يقسم الباب إلى قطع صغيرة ليضعها في المدفأة..
وهكذا دفع الباب المتعجرف بتصرفه الأحمق ثمن فعلته، وإن تسبب ببعض الخسارة للفلاح..
( 4 )
يذكرنا أسلوب الباب المتعجرف بحال بعض العاملين ممن يصلون إلى درجات متقدمة في مؤسساتهم بمساعدة الآخرين وتعاونهم معهم.. وعند وصولهم إلى المنصب يحاولون خطف الأنظار وتوجيهها نحوهم وتجميع المعجبين حولهم، وذلك من خلال أدائهم المتميز للعمل الموكل بهم، ودقتهم بإتقانه وتجويده..
مع مرور الزمن يفقد عملهم هذا رونقه ويصبح رتيباً " روتينياً " يألفه الجميع.. وإذا ما برز أحدهم في موقع آخر، نسوا من وقفوا بجانبهم سابقاً ودفعوهم للوصول إلى ما هم عليه، فيحاولون إغفالهم بشتى الوسائل، ولفت الانتباه إليهم مجدداً.. وربما سعوا إلى خلق بعض المشاكل في مؤسستهم لهذا السبب، ويمضون الليالي بالتخطيط لإفشال الآخرين بدلاً من بذل الجهد لتطوير أنفسهم إن لم يكن لمساعدة الآخرين..
وتمر الأيام وتتدهور المؤسسة أمام أعينهم وهم لاهون عنها بتدبير المكائد وتفشيل الآخر الذي لا ذنب له سوى أنه حاول التطور والتقدم.. وتكون نهايتهم مع الأسف شبيهة بنهاية الباب المتعجرف، حيث يستغنى عنهم، وينحون جانباً، ولكن بعد أن يكونوا قد كبدوا مؤسساتهم خسائر كبيرة وحوِّلوها من ناجحة رابحة إلى خاسرة..
( 5 )
إن مثل المؤسسات بكل أنواعها وعلى اختلاف أهدافها وأنشطتها، كمثل البناء، يحتاج لجهود جميع أجزائه، ليكون عامراً ويظل قوياً متماسكا.. والمؤسسات " كائن حي " لكل عضو فيه دوره الهام لكي يظل صحيحاً يؤدي أنشطته بشكل سليم.. فنجاح المؤسسات يعتمد على تضافر جهود كل العاملين فيها، على اختلاف قدمهم ومستوياتهم الوظيفية وتنوّع معارفهم واختصاصاتهم وتجاربهم وخبراتهم وقدراتهم.. والمؤسسة الناجحة هي التي يسود فيها شعار " العمل الجماعي " الذي يساهم فيه الجميع بشكل إيجابي، ويقدمون كل ما يمتلكون من إمكانات لتأدية واجباتهم ومهامهم على أحسن وجه..
( 6 )
ولن أستطرد، وأضع أمام القارئ العزيز توجيه السيد الرئيس د. بشار الأسد في خطابه الدستوري أمام مجلس الشعب بتاريخ 17/7/2007، ليستخلص منه العبرة المفيدة في سلوكه وتصرفاته وأعماله، وفي علاقته مع زملائه وأعوانه ومرؤوسيه، وفي صلته مع المتعاملين والمواطنين.. ( فالدولة القوية هي التطوير والاستقرار. والدولة لا تكون قوية إلا بقوة مواطنيها النابعة من شعورهم بمواطنتهم، والمرتكزة إلى مشاركتهم جميعاً وتحملهم المسؤولية حسب مواقعهم. )..
* * *
من حكايات شهرزاد [15]
عنان شيخ الأرض [16]
( 1 )
جاء في حكايات " ألف ليلة وليلة "، أن شهرزاد مضت تقص على شهريار حكاية " نور الدين والأميرة".. وأن الملك شهريار كان مسترسلاً ومنسجماً مع حكايتها الحلوة الساحرة، ومفتوناً بكلامها الرقيق الشيّق.. إلى أن قالت: فلما رقصت الراقصة، أعجب بها الملك إعجاباً بالغاً، وأمر أن يصنع لها بساط طوله عشرون متراً، وعرضه عشرون..
( 2 )
أمضى الصناع في صنع البساط ست سنوات.. وتكلف مئات آلاف الدراهم.. هنا رفع الملك رأسه، ونظر إليها قائلاً: شهرزاد.. ألم أُحذرك من المبالغة!، أجابته: أية مبالغة أيها الملك السعيد؟، قال: لعلك تحسبينني غافلاً يا شهرزاد، أتظنينني أصدق أن بساطاً في الوجود يستغرق في صنعه النساجون ست سنوات؟.. ثم، كيف يتكلف مئات آلاف الدراهم وهو من الصوف فقط، وليس من الذهب والجواهر؟!. فردت: أقسم لك أن هذا صحيح يا مولاي.. قاطعها: لا تغضبي.. وإلاّ ناديت منصوراً السياف!. فانحدرت الدموع من عينيها، وقالت بصوت تسوده العبرات: مولاي.. إنني ما قلت لك إلاّ ما سمعته..
( 3 )
ثم مدت شهرزاد يدها تحت وسادتها، وأخرجت كتاباً أزرق اللون، وقدمته للملك قائلة: تفضل يا مولاي وانظر.. فنظر شهريار.. وقال: ما هذا، تقرير دائرة العقود؟، أي دائرة هذه، ليس في دولتنا دائرة بهذا الاسم! أجابته: ولكنه موجود في .. بلد بطل قصتنا نور الدين، ولتقرأ فيه يا مولاي هذه الحكايات:
بدأت بحكاية البساط، الذي اشترت الدولة صوفه سبع مرات، لأن " العتة " كانت في كل مرة تأكل الصوفَ قبل أن يفرغ النساجون من النسج.. قال الملك: ذلك أمر عجيب.. ربما كان غرضهم هو تغذية "العت " أولاً! معذرة كان يجب أن أعرف أو أنتبه إلى أن بلد نور الدين هي بلد العجائب..
( 4 )
واستطردت شهرزاد تحكي حكاية " الأمير والشحاذ ".. حتى إذا انتهت منها، مضت تقول: فلما فرغ الشحاذ من قصته، رقّ قلب الأمير لحاله، وأمر له بعشرين أردباّ من القمح.. فأعطيت له من مخازن الدولة.. ولكن الرجل لم يكد يفحصها حتى بكى، وقال: سيدي الأمير، هذا القمح فاسد أصاب معظمه النخر.. فالكثير من حباته قد أكل منها السوس أو عشش فيها.. فنظر شهريار إليها، وقال: هذا شيء غير معقول يا شهرزاد، كيف تذكرين أن القمح صرف له من مخازن الدولة، ثم تقولين أن معظمه فاسد، ألا يوجد على مخازن الدولة مراقبون ومشرفون؟.
أجابته شهرزاد: مولاي.. هل تتفضل بنظرة أخرى في الكتاب الأزرق و.. قاطعها الملك قائلاً: لابد أن هذا الكتاب من تأليفك، فأنت واسعة الخيال.. فأجابته حالفةً بأنها تتحدث عن الواقع، فقام شهريار إلى النافذة، وقال وهو يفتل شاربه: لابد أن تلك البلد تفوق في الغرابة كل ما يتخيله الناس! دعينا الساعة من حديث نور الدين، وقصي عليَّ لوناً مختلفاً من الغرائب..
( 5 )
فقالت شهرزاد: مولاي هذا بلد آخر.. لا ينفق فيه درهم واحد إلاّ إذا وافق على الإنفاق حوالي عشرة من الأشخاص أو الرؤساء والمراقبين.. ومع ذلك تضيع فيه ملايين الدراهم!.. لا يدري أحد كيف؟!. تصوِّر يا مولاي أن رجال هذه الدولة بلغ من دقتهم أنهم إذا أرادوا شراء كرسي، فإنهم يعلنون عن طلبهم هذا في الصحف، ليتقدم مئات العارضين بأحسن ما عندهم من الكراسي.. ثم تجتمع لجنة من الخبراء في الكراسي، ويبدؤون بفحص الكراسي المعروضة ومساومة العارضين حول أسعار الواحد منها.. إلى أن ينتقوا أحسن كرسي بأرخص الأسعار..
ومع ذلك يا مولاي، فقد أرادوا ذات مرة بناء خزانين للزيت يتكلفان ملايين الدراهم، فأعلنوا عنهما في مناقصة عامة عالمية.. وتقدمت شركات من معظم أنحاء الدنيا بعروضها.. أكبت عليها لجنة من المهندسين والتقنيين تفحصها وتدقق فيها حتى اختارت أحسنها.. ورسا الخزانان على الشركة ذات العرض الأنسب والسعر الأنسب.. فقامت بإنشائهما.. وتسلمتهما أصولاً لجنة فنية تقنية، بعد أن قررت أنهما خير خزانين للزيت في الوجود.. وبعد أسابيع فقط، اتضح أن الخزانين لا يصلحان!..
أخذ شهريار يشد شعر لحيته، ويقول: هذا غير ممكن.. هذا مستحيل.. وماذا يعمل عشرات المراقبين والمديرين والموظفين؟، أجابت: لا أدري يا مولاي..
( 6 )
واستطردت شهرزاد، قائلةً: حدث ذات مرة... قاطعها شهريار: كفى.. كفى.. لقد أحزنت قلبي بهذه الحكايات.. إن قلبي ينفطر حينما أجد أموال الناس تضيع هباء..
ولكن قولي لي.. هل أهل تلك البلاد سعيدون؟ أجابته: نعم يا مولاي.. فاستغرب: وكيف يكون ذلك؟ أجابته: لأن لديهم الأمل في القضاء على الفساد والمفسدين والفاسدين، فهم يعملون جهدهم لكشفهم ومحاسبتهم وعزلهم عن الأعمال العامة.. ويحاولون تقوية البلاد وتطويرها من خلال بذل الجهود المكثفة في تربية الأجيال الناشئة ورفع سويتهم العلمية والأخلاقية، وبذلك يساهمون في تنمية مجتمعاتهم بما فيها القضاء على الفساد وتجاوز التخلف، وبالتالي جعلها عصرية متقدمة..
هذا يا مولاي.. وهنا أدرك شهرزاد الصباح...
* * *
عنان شيخ الأرض[18]
( 1 )
على إحدى ضفتي نهر عريض، كانت توجد مملكتان: إحداهما للقطط، والأخرى للفئران.. وبرغم أن كلاً من المملكتين، كانت على جانب عظيم من الجاه والسلطان، فإن النهر الكبير العريض شكّل حائلاً بينهما، بحيث لم تسمع الواحدة منهما عن تفاصيل وجود الأخرى وحياتها..
بيد أن هذه الحالة لم تدم طويلاً، إذ استقر رأي الدهاة في مملكة القطط، على إنشاء أسطول من السفن الاستكشافية والتجارية، للوقوف على الأوضاع فيما وراء النهر.. وتم اختيار مجموعة من فطاحل العلماء وأصحاب المصالح والدبلوماسيين من الجنسين " ذكوراً و إناثا ً"، وأكثرهم كياسة وخبرة، وأشدهم دهاءً ولباقة وقدرة على التأثير في الغير..
ومع شروق شمس أحد الأيام، عجت الميناء الكبرى لمملكة الفئران بمجموعة القطط..
( 2 )
وفي لمح البصر، هاجت مملكة الفئران وماجت، وأرسلت كتيبة من جندها البواسل، لمواجهة هذا الطارئ الوافد، الذي أعلمتهم طلائعه بأن مهمتهم سلمية.. حيث هدأت النفوس والأحوال، وتمكن الغزاة من شق طريقهم إلى العاصمة..
أُعجب الأهالي بضيوفهم، لما امتاز به ذكورهم من بديع الشوارب ورشاقة الحركة، وسمو الذوق" الاتيكيت ".. كما سحروا بجمال الإناث وعذوبة أصواتهن وبريق عيونهن، واستهوتهم على الأخص فراؤهن الناعمة الغزيرة، وذيولهن الشبيهة بالراقصات الفاتنات.. وبدأوا يعاملونهم بحفاوة كبيرة..
وإمعاناً بالاحتفال أخذوهم بجولة في مملكتهم، ليطلعونهم على كامل مرافقها، ويشرحون لهم أوضاعهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والطبيعية..
( 3 )
عندما حان موعد الرحيل، شكر رئيس وفد القطط الأهالي على حُسن الضيافة.. على أنه أبدى، ومجموعته، أسفهم الشديد لما شاهدوه من مظاهر البؤس والجهل والمرض المتفشية بينهم.. واقترح عليهم توقيع معاهدة معهم، يتعهد فيها مندوب القطط، بأن يبعث بخبرائه في جميع المجالات لتحسين الحالة الاجتماعية والاقتصادية والمادية والفكرية في مملكة الفئران، ومدها بالمال عند االاقتضاء..
سرعان ما نُفِّذت أحكام مواد المعاهدة.. وامتلأت مملكة الفئران، بالخبراء والفنيين من القطط، الذين فتحوا المدارس والمعاهد، وقدموا المساعدات المالية للجمعيات التي بدأت تكثر، وامتلأت نفوس الشباب أملاً، بأن يصبحوا بين عشية وضحاها كالقطط، رشاقة وكبراً وجمالاً.. وفي الوقت عينه، وصلت دفعة من كبار أطباء مملكة القطط للإشراف على الصحة العامة في مملكة الفئران!.
وانكبّ شباب الفئران، على دراسة تاريخ القطط وجغرافية مملكتهم وحروبها وأبطالها..
إلاّ أن جيلاً مضى، وجيلاً أتى، ولم يحدث أدنى تغيير في حجم الفأر، أو شكله.. ولم تتلون عيناه، أو تنعم فروته وتغزر!. بل على النقيض من ذلك، أصبح الجيل الجديد من الفئران، يحس بضآلته، وبؤسه بجانب مُصلحيه من مملكة القطط..
( 4 )
حكاية ساخرة نشرت في القرن العشرين الماضي عن رجال السياسة وعلاقات الدول الكبيرة بالدول الصغيرة.. أعادتها للذاكرة، ما نلمسه من انتشار المساعدات التي تجود بها المؤسسات والمنظمات الدولية المختلفة، والدول الغربية على دول العالم الثالث، تحت مسميات مختلفة، وأهداف مبهمة غامضة..
الأمر الذي يدعو للتفكير ملياً عن سبب انتشارها، وللتساؤل عن الأهداف الكامنة وراء ذلك.. سيما وقد علمتنا الأيام أن هذه الدول لا تقدم أيَّ شيء بدون مقابل.. فقد نشطت المساعدات لتطوير المجتمع المدني، وتطوير ثقافتنا، وتطوير الخطاب الديني، وتطوير وضع المرأة وتطوير.. وتطوير..
( 5 )
أذكر ما تقدم، دون أي تعليق.. مكتفيةً بأن أضع أمام القارئ وسائر المعنيين، بعض ما ذكره السيد الرئيس بشار الأسد في خطابه الذي ألقاه في مدرج جامعة دمشق بتاريخ 10/11/2005.. لاستخلاص الدروس والعبر، والتنبه إلى الغايات الحقيقية لما يطلبه الآخرون.. حيث قال:
( ما هي الإصلاحات التي يبحثون عنها، لكي ندقق مدى مصداقيتهم؟..)..
( الإصلاح السياسي.. ما هو الإصلاح السياسي الذي يتحدثون عنه، هل يريدون من البلد أن يهتز.. أن يصبح من دون ضوابط لكي يبتزوا أي حكم من خلال الداخل. )..
( الإصلاح الاقتصادي.. هم يريدون منا أن نفتح الأسواق أمامهم بمعزل عن مصالحنا.. مقابل بعض الصدقات والفتات الذي يقدم لنا.)..
( أما عن الإصلاح الثقافي، فعلينا أن ننزع أو أن نخلع جلدنا ونصبح نسخة عنهم.. )..
( إذا كانوا يريدون أن يثبتوا مصداقيتهم، في هذه الطروحات، بما أنهم دائماً يظهرون قلقهم على أوضاعنا الداخلية، فليتفضلوا ويدعموننا في الإطار السياسي، ليعيدوا لنا أراضينا المحتلة، وليمنعوا عنا العدوان إن كانوا صادقين. )..
( أما في الإطار الاقتصادي فليتفضلوا وليدعمونا، لنحسن أوضاعنا الاقتصادية وبالتالي الوضع المعاشي للمواطنين.. أن يكون الدعم حقيقياً، وليس مجرد دعم وهمي أو دعم جزئي لا يحقق النتائج المطلوبة.. )..
* * *
التربة،أم البذار؟.. [19]
عنان شيخ الأرض[20]
( 1 )
في إحدى القرى، كان أحد مالكي الأراضي، يهتم بها اهتمامه بأولاده، وربما أكثر، ويتابع إنتاجها من المزروعات، التي كان يسعى أن تكون الأفضل والأجود.. مع مرّ السنين، لاحظ الرجل ضعف الإنتاج، وتراجع مستوى الجودة.. فاستاء, ونوى تغيير نوع البذار الذي يستعمله.. فكان الحال يتحسن لبرهة من الزمن، ثم يعود إلى سابق عهده!. ومن كثرة اهتمامه بأرضه، لأنها مصدر رزقه ودخله، لجأ إلى خبراء أجانب، يسألهم النصح في حالته، فنصحه البعض بأن يأتي ببذور مستوردة قد جربت في بلادهم، وزرعت في أراضيهم، وكانت نتائجها جيدة، وقبِل الرجل النصيحة، ولكن إنتاج أرضه لم يتحسن، وشعر مع الأيام بأن ماله ووقته ذهبا هباءً..
( 2 )
وساق اللِّه إليه أحد أصدقائه القدامى، المعروف بحكمته وسعة أفقه، بالإضافة لإخلاصه له.. روى له حاله مع أرضه، وحدثه كيف أن البذار ينبت مزروعات تبدأ جيدة، ثم لا تلبث أن ينالها العفن واليباس، وكيف أنه بدّل وجرّب كثيراً من أنواع البذار دون فائدة، حتى تلك التي استوردها من الخارج، لم تحل له مشكلته..
سأله صاحبه: وهل حاولت تحسين التربة أو تبديلها؟ فأجابه مستغرباً: وما علاقة التراب بذلك، فهو من نوعية جيدة، وأنبت منذ زمن الكثير من المحاصيل المتميزة أولاً، وهل يمكنني إصلاح التربة كما تقول ثانياً؟!
أجابه صاحبه: ألم تسمع يا صديقي بالأراضي المالحة التي تم استصلاحها على مدى سنوات وسنوات، حتى ذهب الملح منها، وأصبحت أراضٍ صالحة للزراعة، تزرع وتعطي النتاج الوفير، حتى أرضك هذه التي تثق بتربتها، وتصفها بالجيدة، لو أنك قمت بتسميدها بين الحين والآخر لأعطتك من النتاج أفضله.. فالعيب يا صاحبي لا يكون دائماً بنوع البذار أو الشتول أو الغراس، إن اصفرَّ أو يبس أو تعفّن، ولكن علينا أن نبحث عن سبب ذلك الذي يكمن في التربة أحياناً، فالتربة الصالحة إن جاءها بذور جيدة، تمدها بالغذاء الكافي الذي يعينها على النمو، وتفسح المجال لجذورها، لتتغلغل فيها، مما يعطيها القوة على الثبات فيما إذا تعرضت للعوامل الجوية المختلفة.. ولكن هذه البذور إن صادفت تربة سيئة، لن تستطيع جذورها الثبات في التراب، ولن تتمكن من الحصول على الغذاء الكافي، ولن يشتدَّ ساقها، فنراها تنجرف مع أول سيول تصادفها، أو تصفر وييبس ما نبت منها مع أول تغيير في محيطها، فالإنتاج الطيب يحتاج إلى تربة وبذار جيدة في ذلك الوقت..
( 3 )
إن ما حدث مع صاحب الأرض، وطريقة تفكيره بمعالجة سوء الإنتاج وقلته بتبديل أنواع البذار، دون التفكير بتحسين التربة، يذكرنا بشكل أو بآخر، بأسلوب معالجة الخلل في إداراتنا.. فما أن يظهر خلل في إحدى الإدارات أو القطاعات، حتى يسارع أصحاب القرار باستبدال المدير بآخر، وأحياناً يخضع المدير الجديد إلى بعض الدورات الداخلية والخارجية، لتفادي الخلل الذي لمسوه في الإدارة السابقة، وربما يتم الاستنجاد بالخبرات الأجنبية، ولكن الجهد يذهب هباءً، لأن التفكير في سبب الخلل اتجه إلى المدير فقط، وافتراض عدم كفاءته دون البحث عن المحيط الذي كان يعمل به، ومدى صلاحيته، وذلك من خلال إمكانيات العاملين معه ومدى كفاءتهم، والبحث عن أدوات الإنتاج ومدى تطورها وتلاؤمها في تحقيق أهداف الإدارة، وحتى القوانين والأنظمة الناظمة للعمل، التي تحكم أداءه..
( 4 )
فنادراً ما نجد أن أصحاب القرار يتجهون بتفكيرهم إلى تحسين مستوى العاملين وكفاءتهم في الهرم الإداري، الذين غالباً ما يُنسون من دورات التأهيل والتدريب حين التخطيط لها، فهم حتى عند دخولهم العمل لم يخضعوا إلى دورة تدريبية مدروسة بشكل عملي تساعدهم على أداء عملهم بالشكل الأفضل..
كما يتم تجاهل تطوير أدوات العمل، التي لا تقتصر فقط على أدوات الإنتاج كما يبدو لأول وهلة، ولكنها تصل إلى أدوات الاتصال والمعلوماتية والأرشفة التي تطورت بتسارع كبير في دول العالم...
وتبقى الأنظمة والقوانين والبلاغات، التي نراها متشابكة ومتناقضة في بعض الأحيان، كالمتاهة التي يتخبط المدير فيها بحثاً عن الحل، الذي يأمل حين الوصول إليه أن يكون صحيحاً..
( 5 )
لا أدعي بأن توفير المناخ المناسب أو المحيط الجيد: من عاملين أكفاء، ووضوح في الأنظمة والقوانين، وتطوير الأدوات الإدارية، كفيل بصنع المدير الجيد.. ولكنه يُمكّن المدير، بالإضافة إلى إمكانياته الشخصية، من الإنجاز والإبداع..
فالمدير ليس المسؤول الوحيد عن تخلف الأداء الإداري لدينا، ولا بجوز تحميله كامل المسؤولية، إلا في حال:
أ ـ إيجاد الظروف الموضوعية لإعمال مبدأ وضع الشخص المناسب في المكان المناسب.. وخاصة من حيث توصيف الوظائف المختلفة مسبقاً، وتحديد المؤهلات والشروط التي يجب توفرها فيمن يُرشح لإشغالها.. ومثل هذا، كمثل ما كان يتوجب على صاحب الأرض، أن يختبر تربة أرضه أولاً، ليعرف ما يصلح لها من بذار أو غراس.. وأن لا يكتفي بتبديل أو تجريب أنواع مختلفة من البذار والغراس!..
ب ـ أن تكون إجراءات تبديل المديرين، في إطار إصلاح إداري شامل، يتضمن جملة من الإجراءات والتدابير التي تؤمن مناخاً أو محيطاً إدارياً معافى من جميع النواحي: × العاملون وأوضاعهم المعيشية والتأهيلية والسلوكية.. × القوانين والأنظمة والبلاغات الملائمة للمرحلة والمتطورة ياستمرار.. × الأدوات الإدارية العصرية، ولا سيما أدوات الاتصالات والمعلوماتية.. وإلاّ، فإن الحلول الجزئية لا تفي بالغرض..
* * *
بين الترشيد والتدبير، والهدر أو الإسراف.. [21]
عنان شيخ الأرض [22]
( 1)
يروى أنه كان هناك تاجران متجاورين في السوق، يتاجران بما تنتجه البلد من قمح وحبوب..
لاحظ أحدهما أن حال جاره أفضل من حاله، فأولاده يظهرون بمظهر أفضل من مظهر أولاده، وهو يستضيف بعض الجوار ليشاركونه طعامه يومياً، مما زاد من توطيد العلاقات الطيبة معهم، واحترامهم ومحبتهم له، فعزم على أن يراقب حال جاره، ويقلده في عمله علَّه يصل إلى ذات النتيجة..
في اليوم التالي، فتح صاحبنا محله في ذات الوقت الذي فتح فيه جاره محله، وأخذ موضعاً يستطيع منه أن يراقبه دون أن يشعر.. وبدأ اليومَ جاره بأن اشترى كمية من الحبوب، فسارع إلى شراء كمية مماثلة، وعرضها بطريقة مماثلة لما قام به.. وجهد كي يبيع بمستوى سعر متقارب معه..
وعندما دعا جاره بعض التجار لمشاركته طعام الغذاء، دعاهم هو في اليوم التالي لمشاركته الطعام، ومضت الأيام على هذه الحال، ولكن الأمرلم يختلف معه، فما زال الفرق واضحاً بينهما..
وازداد حيرة في أمره، فهو لا يحسد جاره، ولكنه يتمنى أن يكون مثله.. ثم فكَّر بأنه لابد أن للجار حياةَ أخرى في منزله، فلماذا لا يذهب ويكتشف ذلك؟.
( 2 )
حلَّ موعد زيارة الجار، وكان صاحبنا قد عزم على مراقبة كل شاردة وواردة في منزل جاره.. استرعى انتباهه عندما دخل البيت مظهر الترتيب الذي كان واضحاً دون تكلّف أو ترف.. وقارن بين ثمن الأثاث الموجود، وثمن ما سبق أن اشتراه هو لأسرته منذ فترة، ومع ذلك لا يبدو منزله بهذا المظهر المرتب.. وعلى مائدة الطعام، تعجّب من عدد الأطباق الموضوعة، وزاد عجبه حين لاحظ صديقه وهو يوجه أولاده إلى وضع الكمية التي سيأكلونها فقط من الطعام في صحونهم، وعدم السماح لهم بترك أيٍّ شيء منها في الصحن..
وزادت دهشته وهو يسمع جاره يطلب من ابنه أن يضع صحناً تحت فمه وهو يتناول خبز " الصمون أو الساندويش " ظناً منه أنه طلب ذلك للحفاظ على النظافة..
( 3 )
لم يعد صاحبنا يستطيع كتم ما به، فتوجه إلى جاره ليصارحه بحاله.. وحدثه عما يشعر به من تفاوت في أسلوبهما ودخلهما ومعيشتهما بالرغم من أنهما يعملان ذات العمل.. وصارحه بأنه راقبه في السوق في الفترة الماضية، كما راقبه عن كثب بعد أن زاره في بيته.. ولكنه لم يصل لمعرفة سر هذا التفاوت!.
( 4 )
تبسم الجار قائلاً إن لغز اختلاف الحال الذي نحن عليه، ومفتاح بركة رزقنا هو الترشيد أو التدبير وعدم الهدر والإسراف والتبذير، والاستفادة من كل ما لدينا حتى آخر درجة..
فأنا مثلاً أحاول أن لا تتساقط حبات البقول على الأرض حين أكيلها للزبون، وإذا ما وقع بعضها لممته مهما قلَّ عددها، ولو جربت أن تجمع ما تتركه أرضاً كل يوم من تلك الحبات التي تسقط منك ستتثبت من صحة قولي..
أما الطعام الذي تراني أدعو له أصدقاءنا في السوق، فأنا أحمله معي من البيت وهو من صنع زوجتي، ولا أشتريه من السوق كما تفعل أنت، ولك أن تقارن بين التكلفتين..
ولا بد أنه لفت نظرك ما رأيته في البيت من أثاث ومفروشات وعليها وسائد وأغطية طاولات وغيرها من القطع الأنيقة، فهذه القطع من شغل زوجتي، فهي تحاول الاستفادة من قطع القماش المتبقية بعد تفصيل وقص الثياب، وتجمعها بطرق مختلفة وتصنع منها أشياء جميلة تضفي على منزلنا رونقاً خاصاً..
وأخيراً لابد وأنك نعتني في سرك بالبخل، حين رأيتني آمر ابني بأن يضع الطبق تحت فمه لتتجمع فيه فتات الخبز، وتأكد لك ذلك وأنا آمره بأن يتناولها، فهذا يا عزيزي درس له ليتعلم بأن لكل شيء قيمة وأن عليه أن لا يستهين ولو بأقل القليل.. ولقد أخبرني أحد أصدقائي أنه قرأ في إحدى الصحف أن هناك معملاً في الصين بدأ في الخسارة بعد أن كان رابحاً، فأثواب القماش لم تعد تعطي ذات العدد من القطع، ولدى الدراسة تبين أن العمال زادوا بالطول عدة سنتيمترات لا تتجاوز الخمسة، ولكن هذه السنتيمترات التي لا تلفت النظر أدت إلى هذه الخسارة..
( 5 )
كانت والدتي رحمها الله تكرر علينا هذه القصة صغاراً، ورددتها على أحفادها من بعد.. ووددت أن أضعها بين أيدي قراء " ملحقنا الإداري " من مختلف شرائحهم وتخصصاتهم، لاعتقادي بحتمية استفادة الجميع منها فيما لو أُخِذ بعبرتها.. فقد أصبح الهدر أو الإسراف أو التبذير ظاهرة تواكب تصرفاتنا في مختلف مناحي حياتنا، وليحصي كل واحد كم يهدر من الماء والكهرباء والطعام يومياً سواء في منزله أو عمله، مما دعا الحكومة مؤخراً إلى تشكيل لجنة لترشيد الاستهلاك، وإعادة ما سينجم عن ذلك من وفر على العاملين.. وليت الحكومة تشكل لجنة مماثلة للحد من هدر القرطاسية من أوراق تستخدم لأغراض متعددة غير التي وجدت من أجلها، إضافة إلى إضاعتها مع الهدر بالحبر وذلك عند تصوير العديد من الأوراق أو النسخ دون الحاجة إليها، والهدر الخفي الذي يكون في حال قيام لجان الشراء بشراء مواد ذات مواصفات متدنية وهكذا..
وفي بيوتنا فإن إسراف الكثيرين في الطعام مثلاً لا يقتصر على ما يرمى منه، ولكن يتجاوز ذلك إلى العادات السلبية الطارئة على مجتمعنا، من تناول المنتجات الأجنبية المستوردة التي تكلف مبالغ طائلة، وظاهرة الاعتماد على الوجبات الجاهزة الضارة بالصحة إضافة لما تشكله من عبء على ميزانية الأسرة..
( 6 )
أعتقد أن تصرفات التاجر في هذه القصة، في محله ومنزله، وحصوله على نتائج إيجابية جيّدة، تشابه إلى حد كبير الدور الذي يمكن، أو يجب، أن تقوم به كل إدارة لتكون رشيدة وذات تدبير حسن، هذا الدور للإدارة الذي ألخصه: باستعمال، ما يتاح لها من إمكانات متنوعة، لتحقيق أهدافها المختلفة، على أحسن وجه..
فهل سنعمل، على الصعيد الخاص والعام، بحكمة التاجر ورشده، ونتدبَّر شؤوننا العامة وأمورنا الخاصة، كما فعل هو داخل منزله وخارجه؟. لكي نساهم إيجاباً في تطوير بلدنا وتنميته.. آمل ذلك..
* * *
هل يستحق سنمّار عقوبته؟.. [23]
عنان شيخ الأرض [24]
( 1)
أعتقد أن معظمنا قد سمع مقولة " جزاء سنمّار "، التي تضرب مثلاً لمن يَلقى شراً كنتيجة لخير قدمه..
وبالعودة إلى عيون الكتب التي روت القصة، يختلف الرواة حول التفاصيل، ولكن أصل القصة واحد.. وهو أن أحد ملوك الفرس واسمه سابور، أصاب ابنه مرض حيّر الأطباء، ووصف له بعضهم أن ينتقل للعيش في مكان هواؤه نقي.. واستقر الرأي على أن أفضل مكان يفي بالغرض، يقع في أملاك أحد ملوك العرب هو النعمان بن امرئ القيس، فأرسل إليه يناشده لإقامة صغيره في الموقع المختار، فاستجاب الملك النعمان لطلب الملك سابور، وأمر ببناء قصر في المكان الذي حدده الأطباء وعلماء المناخ..
كان أشهر المعماريين في ذلك الوقت، مهندس من الروم يسمى سنمّار، فعهد إليه ببناء القصر.. وقد استغرقت عملية البناء عشرين عاماً " أي بعد أن كبر الصبي المريض وبرئ من مرضه وأصبح شاباً ".. وفي رواية أخرى أن زمن بناء ذلك القصر امتد ستين عاماً..
وقد روي في كتاب معجم البلدان لياقوت الحموي، أن سنمّار لم يكن يعمل بانتظام، بل كان ينقطع عن عمله كثيراً.. كان يعمل لسنتين ويغيب عن العمل خمساً!. وإذا سأله سائل عن سبب غيابه، كان يحتج بأنه يتحرى الجودة والإتقان.. والحقيقة غير ذلك، إذ أنه أصبح مغروراً، وكان يعتقد أنه لن يحصل على ما يستحق من أجر..
( 2 )
يوم افتتاح القصر، جاء الملك النعمان وأعجب بحسن البناء، الذي كانت له أبراج شاهقة، يرى الواقف عند قُمتها البحرَ والبر.. صعد النعمان إلى قمة أحد الأبراج ونظر فرأى البحر أمامه والبحر خلفه فهنأ المهندس سنمّار.. ربما كان الملك " الذي أصبح شيخاً " قد غفر له تلكؤه وخذلانه له.. فاقترب سنمّار من الملك المتسامح معه متباهياً، وتحذلق قائلاً: والله إني لأعرف في هذا البناء موضع حجر لو زال لانهار جميع البنيان.. قال النعمان: أو كذلك؟!. عاد المهندس الغافل، تحت تأثير غروره وحمقه، يؤكد: نعم.. فكان رد الملك الذي تغاضى عن تأخير سنمّار في بناء القصر، وها هو يطلعه على سر يهدد أمنه به، إذا تمّ نقله إلى عدوٍ يهمه أن يتهدم القصر على من فيه.... فكان رد الملك حاسماً وحازماً بإلقاء سنمّار من أعلى نقطة بالقصر الذي شيده في عشرين أو ستين سنة..
( 3 )
فوجئت مؤخراً لدى قراءتي لمجلة المعرفة الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في المملكة العربية السعودية في عددها رقم 129 كانون الثاني 2006 أن أحد الكتاب يرى أن سنمّار يستحق عقابه، وذلك لكونه تأخر في إنجاز القصر إلى ما بعد الانتهاء من الغاية التي أُنشئ من أجلها، مما أحرج الملك العربي أمام جاره الملك الفارسي، إضافة إلى تكبره وغروره وتعاليه في كلامه مع الملك مما دعاه إلى إصدار ذلك الحكم بالعقوبة..
وفكرت أيضاً، ربما كان تأخر الملك في معاقبة سنمّار على تقاعسه في تنفيذ القصر الذي بهر الناس بعمارته وجماله، قد دعا الناس إلى لوم الملك النعمان على معاقبته سنمار تلك العقوبة القاسية وجعله مثلاً في نكران الجميل.. لأن التساهل في محاسبة المقصر، وطول الأمد بين ارتكاب الخطأ وفرض العقوبة، تقلب الظالم مظلوماً وتجعل المخطئ بريئاً، وتنفي عن العقوبة الغاية التي فرضت من أجلها سواء بالردع الخاص لمرتكب الخطأ أو الردع العام للمجموع..
( 4 )
واتقلت بفكري إلى المشاريع العديدة لدينا، التي يطول تنفيذها ويتأخر سنوات عديدة.. حتى أن بعضها تكون الغاية التي وجد من أجلها قد افتقدت، بعد أن ينجز!. وذلك بسبب طول المدة الفاصلة بين الدراسة والتنفيذ، فالمعطيات تتغير والدراسات تتطور، وكذلك أساليب التنفيذ.. فنحن في عصر تتقدم فيه العلوم كل يوم وليس كل عام.. حتى أن التأخير في التنفيذ أصبح عرفاً أو تقليداً مألوفاً لا يخفى على أحد، فالشواخص المنصوبة أمام المشروع تشير إلى تاريخ البدء بالتنفيذ والمدة المعطاة للإنجاز، ولكن قلّ ما نجد مشروعاً قد تم إنجازه ضمن هذه المدة..
وإذا ما حاولت الجهة المشرفة محاسبة المقصر، سيصبح الوضع أصعب، لأن المشروع سيتوقف عند المرحلة التي وصل إليها ريثما تنتهي الجهات الرقابية من إجراءات التحقيق التي تأخذ وقتاً ليس بالقصير..
والأصعب من ذلك، حين يحال الموضوع إلى القضاء بدرجات تقاضيه المعروفة، والتي يتوجب على الجهات العامة متابعتها حتى صدور الحكم بدرجته القطعية، بإدانة المقصرين، نجد أن الغالبية تكون ضده بما فيهم مرتكب الجرم لكونهم قد نسوا الجرم والأضرار التي تسببها من خسائر مادية وغيرها..
( 5 )
واحترت أخيراً.. ولم أستطع الوصول إلى قناعة تامة حول: متى يجب أن يحاسب المقصّر المتأخّر، وكيف؟، وهل كان سنمّار يستحق العقوبة التي صدرت بحقه، أم لا؟.
أترك الإجابة للقارئ العزيز، في ضوء الظروف التي عاشها ويعيشها، والأمثلة الواقعية التي مرّ ويمرّ بها..
* * *
الإيفاد، مهمة أم نزهة ؟.. [25]
عنان شيخ الأرض [26]
( 1 )
في بلد من بلاد الله، كان هناك رجل يملك شركات كبيرة، تنتج مواد مختلفة، ولها فروع كثيرة منتشرة في أصقاع بلده، عليها مديرون يسيّرون أمورها وشؤونها.. وكان الرجل يسعى إلى تطوير عمله بشكل مستمر.. وفي سبيل ذلك،كان يرسل بعض العاملين في شركاته إلى البلاد الأخرى، للإطلاع على تجاربهم، وما وصلوا إليه.. كما كان يحب أن يطلع الآخرين على ما توصل إليه.. ولاتساع عدد شركاته وفروعها، كان يطلب من المديرين ترشيح من يرونه أهلاً لذلك.. ولثقته بهم، فإنه كان يعتمد الأشخاص المرشحين من قبلهم دون نقاش، لاعتقاده بأنهم الأكفأ على الاختيار..
( 2 )
وذات مرة أُبلغ عدد من العاملين عن اختيارهم لمهمة من تلك المهمات الخارجية، الاطلاعية والتدريبية، في بلد آخر.. جاء القرار مبهماً، فلم يعرفوا طبيعة المهمة التي أوفدوا إليها..
طلبوا مقابلة من رشحهم، ليتباحثوا معه الأمر، ويقفوا على طبيعة المهمة التي كلفوا بها، والتي هي ليست من اختصاصهم أصلاً، وليتزودوا منه ببعض المعلومات المتعلقة بعمل الشركات بشكل كامل، وهذا ما يفترض أن يتوفر لديه.. أو أن يزودهم ببعض الكتيبات المتعلقة بذلك.. ولكن مع الأسف، لم يكن لديه الوقت الكافي لمقابلتهم، واعتبر الأمر ليس ذا أهمية كبيرة.. فاعتذر.. وتقاعسوا هم أيضاً عن جمع المعلومات اللازمة، وتهيئة أنفسهم مهنياً وعلمياً للسفر!. واقتصروا على تهيئة حقائب السفر.. وهكذا سافروا على بركة اللَّه، دون معرفة الهدف بشكل واضح، ودون تخطيط مسبق..
( 3 )
وصل الوفد إلى البلد التي أوفدوا إليها.. انبهروا بجمالها، بالتقدم التقني، بوسائل الراحة واللهو المتوفرة في كل مكان.. انغمسوا في المدينة ومباهجها، حتى أنهم نسوا المهمة التي أرسلوا من أجلها، والشركات التي يمثلونها.. ولكن الضرورة دعتهم إلى حضور بعض الاجتماعات، والقيام ببعض جولات العمل، التي لابد منها، فكانوا فيها حاضري الجسد غائبي الفكر.. فكلٍّ منهم ركّز تفكيره على ما قام به.. فهذا يفكر بالصفقة التي عقدها لحسابه "من خلف شركته " مع شركة كبرى، وكم ستدر عليه من أرباح.. وهذا يفكر بفرصة العمل التي وُعد بها، لبعض أخوته وأقاربه، وما إذا كانت ستتم.. والثالث كان يغالب النوم، بعد أن أمضى سهرة ممتعة!.
وبهذا أعطوا صورة وانطباعاً سيئين عن شركتهم التي تكلفت الكثير.. دون تحقيق الهدف المرجو، سواء بإطلاعهم على ما هو مفيد الآخرين، أو بالتعريف بأنشطة الشركات التي يمثلونها!.
( 4 )
وبعد العودة، اجتمعوا ليُعدوا تقريراً ، يقدمونه لرئيس الشركة، حول مهمتهم، وماذا جنوا منها، وما يمكن تطبيقه لدى الشركة، وما هو مستوى الشركة بالنسبة لما رأوه.. أو ما شرحوه عن أعمالهم للآخرين هناك.. ولكنهم تعثروا، ولم يفلحوا.. فلجأوا إلى من سبقهم بالذهاب في مهمات سابقة، يطلبون النصيحة.. وكانت نصيحة هؤلاء سهلة جداً!. اكتبوا أي شيء، عن أي شيء، لأن لا شيءَ سيُقرأ!. وهكذا ما كان.. وكانوا كلما سئلوا عن سفرهم، تحدثوا عن تلك البلاد وما رأوه فيها بإسهاب، ما عدا العمل، وما يخص العمل والدعاية لشركاتهم.. وكانت النتيجة، خسارة صاحب الشركات الكلفة التي تكلفها بإرسالهم إلى الخارج، وخسارة إنتاجيتهم فيما لو أنهم بقوا على رأس عملهم..
( 5 )
لعل ما حدث مع رب العمل، يشابه إلى حد كبير، ما يحدث لدى الحكومة والجهات العامة، حين ترسل بعض عامليها بمهمات رسمية.. حيث تدفع تكاليف السفر، بأمل أن يعود ذلك عليها بالفائدة، من خلال تطوير معرفة الموفدين وخبراتهم، وعكس ذلك على عملهم وإنتاجيتهم.. ولكن للأسف، يعود الكثير منهم، بعدة حقائب " بدلاً من الحقيبة التي سافر بها " تحوي البضائع والمشتريات، بدلاً من المراجع والكتب، التي ربما تخلص منها، كي لا تكون وزناً زائداً، يضطر للدفع عنه، فهو يضحي بها، على مبدأ التضحية بأقل الأضرار!.
( 6 )
أعتقد أنه قد يساعد على حسن اختيار المرشحين والموفدين، أن توضع آلية عملية وعلمية من جهة مسؤولة عن دراسة وضع المرشحين للإيفاد، مهما كانت مدته، وسواء كان داخلياً أو خارجيا.. وتكون هي بالتالي، خاضعة لإشراف جهة أعلى منها ورقابتها..
وأقدم بعض المقترحات، عساها تساعد في ذلك:
* أن يكون هناك مرجع مختص بالترشيح، يحدد شروطاً عامة يجب توفرها لدى المرشحين، بالإضافة إلى شروط نوعية نفصيلية تتعلق بطبيعة كل إيفاد ومهمة..
* دراسة مدى انطباق شروط الترشيح على المرشحين، من حيث الاختصاص، وممارستهم بشكل فعلي لعمل يتعلق بالإيفاد.. بحيث تخضع الجهة التي ترشح خلافاً لذلك، للمساءلة أو للعقوبات.. مما يساعد على ضمانة جدية الترشيح وسلامته..
* السعي إلى إيفاد أكبر عدد ممكن من العاملين، وعدم حصره بأشخاص معينين..
* إيفاد بعض العاملين، من الصف الثاني " معاوني مديرين " كنوع من التدريب والإعداد المسبق، تمهيداً لاستلامهم مهام ووظائف أعلى..
* إلزام الموفدين بتقديم تقرير مفصل عن المهمة التي أوفدوا إليها.. ومقترحاتهم حول إمكانية تطبيق ما درسوه أو اطلعوا عليه في إداراتهم ووحداتهم، من عدمه..
* متابعة الموفدين لتقييم أداءهم بعد الإيفاد، ومدى تطويرهم لأدائهم وللعمل المكلفين به..
على أني إذ أقدم هذه المقترحات، أعتقد بصعوبة تحققها، نظراً لافتقاد الهيكل التنظيمي في الهرم الإداري الحكومي إلى جهة أو أداة مركزية أو وزارة دائمة، تتولى شؤون الإصلاح الإداري بصورة مستمرة، في إطار نظرة شاملة، وضمن تدابير وإجراءات إصلاحية متكاملة ومتدرجة في جميع المستويات والقطاعات، العامة والخاصة وغيرها، المركزية والجهوية والمحلية..
* * *
حكمت المحكمة.. [27]
عنان شيخ الأرض [28]
(1)
أتتني الصغيرة، ليلة امتحان اللغة العربية، طالبة أن أُسَمِّعَ لها موضوع التعبير.. استغربت الأمر، وأفهمتها أن تصرفها خاطئ، وأن عليها أن تكتب الموضوع وفق شعورها هي وما تفهمه..
فصرخت بغضب قائلة: لا لن أسمع لك مرةً ثانية.. فهل تريدينني أن أحصل على علامة منخفضة كالامتحان السابق، عندما سمعت نصيحتك؟!. لقد نبهتنا المعلمة عدة مرات، لحفظ المواضيع التي تمليها علينا كما هي، وإلاّ فلن ننال العلامة التامة..
أثر هذا الموقف فيَّ كثيراً.. وليلتها، رأيت فيما يرى النائم، أنني في بهو محكمة كبير، احتشد فيه أناس كثيرون، كما اكتظ قفص الاتهام بالمتهمين.. ووقف ممثل النيابة العامة، يوجه لهم تهمة قتل الإبداع والبحث والتفكير..
( 2 )
توجَّهَ أولاً إلى المتهمين في المدرسة الابتدائية، متهماً إياهم بقتل إبداع الأطفال منذ نعومة أظفارهم.. منذ اليوم الأول لدخولهم المدرسة.. فهم يدخلون المدرسة بحيوية ونشاط وحرية، يبتدعون قصصهم ورسومهم وألعابهم.. فيدخل المعلم، ليقتل أو يحد من إبداعهم شيئاً فشيئاً، باسم التعليم والنظام.. وتوضع القيود على الطفل قيداً قيداً، فيجب أن لا يرسم إلاّ وفق ما يرتئيه المعلم، ولا يلون إلاّ بالألوان التي يفرضها، ولا يكتب إلاّ ما يحفظه له المعلم وبالطريقة التي يرتئيها، واللعب يكون وفق حدود صارمة، وإذا ما أغراه إبداعه للخروج عن التعليمات، فالعقوبات المادية والمعنوية بالانتظار!.
وهنا تدخل أحد المتهمين قائلاً: مهلاً مهلاً، لا تنسى أننا نقدّر إبداع الطلاب المبرزين وتفكيرهم، ونرشحهم للاشتراك بالمسابقات الداخلية والخارجية، أليس هذا دعماً لهم؟ و..
فقاطعه ممثل النيابة العامة قائلا: ليتكم لا تفعلون ذلك، لأن ترشيحكم في بعض الأحيان يكون الضربة القاضية، فأحياناً تأخذون ما قام به بعض الأطفال، وتنسبونه إلى آخرين، لا داعي لأذكركم من هم!، وبذلك يفوز إنسان لم يتعب.. وهذا ما تتبعونه عندما تشعرون أن التحكيم سيكون نزيهاً، وإلاّ فإن أولئك الأطفال سيحصلون على الفوز مهما كانت درجة إبداعهم هذا إن وجد..
( 3 )
ثم توجَّهَ بعد ذلك، لفئة مدرسي المرحلة الثانية من التعليم الأساسي، المرحلة الثانوية: أما أنتم أيها السادة، فإنه من يصلكم من الطلاب ولديه بعض الإبداع والأفكار، تتناولونه بعناية للقضاء على ما تبقى لديه.. فتُلقنون طلابكم المناهج وفق ما أدركتموها، ولا إضافة على ذلك.. وإذا تجرأ أحدهم وناقش الموضوع من وجهة نظرٍ حديثة، قرأها في أحد المجلات المختصة، أو اطلع عليها من موقع على شبكة الانترنيت، اعتبرتم تصرفه وقاحة، وتطاولاً عليكم، وبسرعة يصل الأمر للإدارة لمعالجة تجاوزه، وجعله عبرة لغيره ممن تُسول له نفسه بتقديم معلومات لم يصل إليها مدرسوه..
وهنا قاطعه أحد المتهمين قائلاً: مالك تصب جام غضبك علينا، وتصور طلابنا كلهم بصورة المبدعين والمتفوقين؟، إن طلابنا دون المستوى الذي تصوره..
فأجابه ممثل النيابة: ليس كل الطلاب مبدعين ومفكرين، وهذا لا يكون في أي بلد.. ولكن هل لي أن أسألك لماذا يتفوق طلابنا بالخارج، ويحصلون على أعلى العلامات هناك، ثم يعودون إلينا لنكرمهم؟ هل سألتم أنفسكم لماذا لم يبدعوا لدينا؟ وأين مكمن الخطأ؟.
فابتدره متهم آخر: إنك يا سيدي تغالي في ظلمنا، فلا بد أنك لم تطلع على المناهج المتطورة التي تم وضعها، وعلى التعليمات المتتالية الصادرة عن الجهات المختصة، الداعية إلى رعاية االمبدعين والمفكرين،
فأجابه ممثل النيابة بسخرية: لقد تم تطوير المناهج عن سابقتها، وليس وفق التقدم العلمي في العالم، وماذا نفعل إن طورتم المناهج، دون تطوير من سيقومون بتدريسها، الذين ربما أحسوا بعجزهم عن إدراكها، فينعكس ذلك سلباً على الطلاب، أما التعليمات الجديدة فليست أوفر حظاً من مثيلاتها، فهي تغفوا بالأدراج بجوارها، كما أنكم قمتم بإنشاء مدارس للمتفوقين، وليس للمبدعين، وشتان بين الأمرين..
(3)
ثم وجَّه ممثل النيابة العامة كلامه إلى المتهمين من المرحلة الجامعية قائلاً: أما أنتم أيها السادة، فقصص قتلكم للإبداع والتفكير والبحث وطرقه، يتوارثها الطلاب دفعة تلو الأخرى.. حيث يتواصون، بالتقيد الحرفي بما ورد في الكتب المقررة منكم، وعدم تجاوزها، وإن كان فيها أخطاء، وإلاّ!.
وهنا تدخل أحدهم: نحن نفعل ذلك، لكي يكون التصحيح دقيقاً، ولكي لا يقال إننا نحابي البعض على الآخرين، فليس كل الطلاب يا سيدي متاح لهم الإطلاع على الأبحاث الدراسات الجارية، في البلاد الأخرى.. لذلك وحفاظاً على مبدأ المساواة، وتكافؤ الفرص نفعل ذلك..
فأجابه ممثل النيابة: هل هذا صحيح؟ أم أنكم تخافون من الطالب المتميز، أن ينافسكم على كرسيكم، فخطره قريب الوقوع، فبعد تخرجه سيكون إلى جانبكم، وهنا يظهر ضعفكم، وبناء على التفكير بالمستقبل والنظر لقد تم تطوير المناهج عدة مرات، ثم يتم العمل على تفشيله، وتعجيزه تأديباً له حتى لا يعود إلى ذلك.. ألم يؤكّد الرئيس الراحل حافظ الأسد: إن مسألة البحث العلمي يجب أن لا تبقى في الحدود النظرية، ويجب أن تكون ركيزة أساسية في كل جامعة إلى جانب التعليم، وعلى الحكومة توفير مستلزمات تحقيق هذه المهمة.
( 4 )
سأل القاضي ممثل النيابة العامة إن كان قد انتهى من توجيه الاتهامات؟ فأجابه: إن شريحة واحدة متبقية، وهي المديرين ومن شابههم، فاسمح لي بتوجيه الاتهام إليهم.. وتوجّه إليهم قائلاً: أما أنتم أيها السادة فالضربة القاضية للإبداع والتفكير تكون على أيديكم، فإذا ما قدر اللّه لشخص أن يتخطى العقبات السابقة، أملاً بتمكنه من إظهار إمكاناته في مجال العمل، خدمة للوطن والمواطنين، ومواكباً لعملية التطوير والتحديث.. وقفتم له باسم التقيد بالقوانين والأنظمة حرفياً، مغلقين أبواب الاجتهاد والقياس، بالرغم من أنهما متعارف عليهما بأنهما من مصادر التشريع، وإن لم يردعه ذلك، ظهر له شبح الرقابة، التي نسيت دورها الأساس برعاية أمثاله ومساعدته..
والتفت إلى القاضي قائلاً: وهكذا يا سيدي القاضي، وكما أوضحت في مرافعتي اجتمع الجميع على قتل الإبداع والتفكير والبحث دون رحمة، والأقسى قتل حامله من خلاله.. وأنا أتساءل بعد ما أوردته كيف نحقق التطوير؟ وأطلب منكم سيدي القاضي بإيقاع أقسى العقوبة عليهم..
فهتفت الجماهير مؤيدة طلبه.. وضرب القاضي على طاولته ضربة قاسية قبل إصدار الحكم، لأصحو من نومي، فكان الصوت صوت جرس المنبه، وكم لمته لعدم الانتظار، لأسمع بما حكمت به المحكمة..
فماذا سيكون الحكم برأيك أيها القارئ العزيز، أو ما الحكم التي تتمناه؟.
* * *
عنان شيخ الأرض[2]
( 1 )
أعلن الشيطان مرةً، عن مزاد لبيع أسلحته.. مما أثار فضول الناس، فتوجه عدد كبير منهم في الموعد المحدد، وخاصة المولعين منهم بالجري وراء القوة والثروة والجاه، إلى حيث أقيم المزاد.. فوجدوا لفائف عديدة كتب عليها "الشراهة "، " الخيانة "، " الفساد "، " النفاق "... ومئات من هذه الرذائل التي يستطيع بها الشيطان إغواء الجنس البشري وإغراءه..
وما كاد المزاد ينتهي، حتى لمح المشترون لفافة عُزلت لوحدها، في مكان بعيد.. فرغب بعضهم بشرائها، وألحوا في طلبها.. ولكن الشيطان رفض قائلاً: لا.. إنها أقوى أسلحتي، وبها أستطيع الاستغناء عن بقية الأسلحة.. فأنا أُلقي بجرثومة اليأس في قلوب مئات الناس، وأظل أتعهدها بالرعاية حتى تزدهر وتتكاثر، فتفشل آمالهم ويخفقون في تحقيق أهدافهم وطموحاتهم.. وأدعهم نهباً للوساوس وضحية للرذائل وما إليها.
( 2 )
كانت هذه الحكاية مكتوبة على ورقة، أعطانيها والدي ليلة رأس السنة، حين رآني ساهرة إلى ساعة متأخرة، أتصفح الأوراق التي جمعتها خلال العام الفائت، عن مشروعات الإصلاح..
فهذه أوراق تتحدث عن ضرورة الإصلاح الإداري، وتركيز السيد الرئيس عليه أثناء ترؤسه اجتماع الحكومة والوزراء والمحافظين، واهتمام الحكومة به، وما تبع ذلك من بلاغات وتعاميم في المؤسسات والجهات الحكومية، ولكن ما هي النتيجة الملموسة؟.
وتلك أوراق تتحدث عن مكافحة الفساد، العنوان الذي أصبح لا تخلو منه صحيفة أو مقال.. والذي أصبح يتردد على كل لسان، والمساعي الحكومية والأهلية لمكافحته، بعد أن اعتبر السبب الأهم في وضعنا المتردي، ولكن ما الذي حصل؟، فإننا لم نلمس على أرض الواقع تنفيذاً شاملاً لما قيل، واقتصر الأمر على صرف بعض العاملين من الخدمة، دون محاولة لمعالجة أسبابه بشكل جدي..
أما الإصلاح الاقتصادي، الذي يعتبر مخرجنا من جميع ما نحن فيه، ووعدنا بقطف ثماره في وقت قصير، حتى أن الفقراء سمحوا لأنفسهم، بأن يحلموا في جني الأموال، وتحقيق حاجيات أولادهم الأساسية، من طعام ومسكن وتعليم.. فلست أدري إلى أين وصلنا به، فلا الأسعار انخفضت، ولا الفقراء شبعوا..
وأوراق غيرها، تتحدث عن القطاع السياحي، الذي يعد الأمل الثاني، في تحسين أوضاعنا، وسيحقق دخلاً بملايين الدولارات، إن لم يكن بالمليارات، وسيؤمن فرصاً للعمل.. والذي انكبّ الكثيرون لخدمته، سعياً للحصول على الموعود.. وصدرت القوانين لتسهيل الصعاب أمامه، وأعقبتها قرارات وتعليمات.. وسمعنا عن معاهدات واتفاقيات وعقود وقعت على الورق.. ولكنهالم تترجم إلى واقع عملي..
أما أوراقي الأخيرة، فكانت الأكثر، لأني جمعت بها، ما نشر عن المحاضرات، والمؤتمرات، وندوات، وورشات العمل، التي عُقدت لبحث ما ورد بالأوراق السابقة، وقد دعي إليها القاصي والداني، ليلقي كلٌّ منهم، ما في دلوه حول الموضوع، وأقيمت المآدب وصرف المزيد من الأموال، وما كنا لنحزن، لو أن ذلك أثمر شيئاً غير التوصيات..
وتساءلت في نفسي ما الذي حققناه؟، من هذا الكم الذي أمامي؟.
( 3 )
وكأن والدي، ببصيرة الأبوة ودرايته وخبرته، عرف ما بي.. فبادرني بسؤال: هل نسيت قصة شجرة البامبو الصينية، التي طالما ذكرتها لكم؟!. تلك الشجرة التي يزرع الصيني بذورها في التراب، ويظل يسقيها أربع سنوات كاملة، ولا يظهر خلالها من البذرة، إلا عود أخضر صغير، ولكنه لا ييأس، ويصرّ على سقايتها.. حيث أنها وبعد مضي هذه السنوات، تنبت شجرة سامقة، يصل ارتفاعها إلى 80 قدماً.. فلو أن الفلاح الصيني يأس من عدم سرعة نمو الشجرة، وتوقف عن سقايتها قبل فترة قصيرة، من موعد نموها، لخسر تعب سنواته التي أمضاها في السقاية..
واستطرد قائلاً: وكذلك الإصلاح الذين تتحدثين عنه، فالمخلصين من أبناء الوطن، قد بدأوا بزراعة بذوره الآن.. وهذا الإصلاح، بشتى أنواعه، أساسه الإنسان.. وإن أصعب أشكال التغيير، هو تغيير الإنسان.. فتغيير عادة لديه وإن كانت للأفضل ليس بالأمر السهل، مما يجعل الإصلاح ليس بالأمر السهل.. فهناك، وبالإضافة للمعارضة العفوية لدى الإنسان العادي الذي لا يتخلى ببساطة عن عاداته القديمة المكتسبة، مقاومة المتضررين منه ومعارضتهم، سواء في الداخل أو الخارج، وهذه المعارضة تأخذ أشكالاً متعددة، منها تعطيل تنفيذ قوا نين الإصلاح، وتفسيرها وفق أهوائهم، و..
( 4 )
إذن،كان عليكِ أن تواجهي اليأس الذي يحتفظ به الشيطان كسلاح حادٍّ، يغري به الضعفاء كي لا يصلوا إلى أمانيّهم.. بأن تتصفحي أوراقك، وأن تنظري إلى ما فيها من إيجابيات، وأن تجمعي ما تحقق فيها من نقاط النجاح، مهما بدت صغيرة الآن، فهي ستتسع وستنفجر يوماً ما أمامك، كما نبتت شجرة البامبو، وعندها سيدهش الجميع بما يرونه وسيقطفون ثماره..
( 5 )
ويؤيد وجهة نظر والدي، القولُ المأثور: لا يأس مع الحياة..
***
[1] نشرت في ملحق جريدة البعث " الإداري " بتاريخ 16/1/2006
[2] مديرة المجالس المحلية في محافظة دمشق
[1] نشرت في ملحق جريدة البعث، " الإداري " بتاريخ 18/9/2006
[2] مديرة المجالس المحلية في محافظة دمشق، سورية
[3] نشرت في ملحق جريدة البعث، " الإداري " بتاريخ 21/8/2006
[4] مديرة المجالس المحلية في محافظة دمشق
[5] نشرت في ملحق جريدة البعث، " الإداري " بتاريخ 18/6/2007
[6] محافظة دمشق ـ مديرة المجالس المحلية بمحافظة دمشق، سورية
[7] نشرت في ملحق جريدة البعث، " الإداري " بتاريخ 21/5/2007
[8] مديرة المجالس المحلية في محافظة دمشق، سورية
[9] نشرت في ملحق جريدة البعث، " الإداري " بتاريخ 17/10/2005
[10] مديرة المجالس المحلية في محافظة دمشق، سورية
[11] نشرت في ملحق جريدة البعث، " الإداري " بتاريخ 20/8/2007
[12] مديرة المجالس المحلية في محافظة دمشق، سورية
[13] نشرت في ملحق جريدة البعث " الإداري " بتاريخ 17/9/2007
[14] مديرة المجالس المحلية في محافظة دمشق، سورية
[15] نشرت في ملحق جريدة البعث، " الإداري " بتاريخ 16/7/2007
[16] مديرة المجالس المحلية في محافظة دمشق، سورية
[17] نشرت في ملحق جريدة البعث، " الإداري " بتاريخ 20/2/2006
[18] مديرة المجالس المحلية في محافظة دمشق، سورية
[19] نشرت في ملحق جريدة البعث، " الإداري " بتاريخ 19/12/2005
[20] مديرة المجالس المحلية في محافظة دمشق، سورية
[21] نشرت في ملحق جريدة البعث " الإداري " بتاريخ 19/3/2007
[22] مديرة المجالس المحلية في محافظة دمشق، سورية
[23] نشرت في ملحق جريدة البعث " الإداري " بتاريخ 16/4/2007
[24] مديرة المجالس المحلية في محافظة دمشق، سورية
[25] نشرت في ملحق جريدة البعث " الإداري " بتاريخ 20/3/2006
[26] مديرة المجالس المحلية في محافظة دمشق، سورية
[27] نشرت في ملحق جريدة البعث " الإداري " بتاريخ 17/4/2006
[28] مديرة المجالس المحلية في محافظة دمشق
Dabas Management
1155 Camino Del Mar
Suite 411
Del Mar, CA 92014
ph: 8583536567
fax: 8587949545
alt: 8587949545
ahmadada